إحسان العسكري

بالأكريلك تارةً وبالألوان الزيتيَّة تارةً أخرى ومع اختلاف الأدوات وتنوعها يبدو أنّ المرأة حاضرة دائماً في أعمال الفنان التشكيلي هاشم الياسري.. الشاب الذي ورث سمو وجمال ذوق الفنان التشكيلي البصري جابر الياسري، ولكن برؤية مختلفة اجتهد عبرها لتكوين لغة بصريَّة متخصِّصة بصيغ وتقنيات تتجاوز حالات الوصف والتعميم التي تتبنى الرؤى التشكيليَّة، فأسس لنفسه رؤيته الشخصية وانطلق يرسم طريقه قبل لوحاته ويخطط لفنّه قبل منفعته حتى أُدرج ضمن الفنانين العالميين إذ أفتتح أول معرض له في أوروبا وفي الدنمارك تحديداً، ثم ايطاليا ولم يتوقف عند سوريا فقط، بل تعدى ذلك وعكف على تدريس الفن التشكيلي لطلبته.  

هاشم الياسري وعبر أعماله التي تقع عليها عين المتذوق تمكن من أن يخلق مجالاً فريداً للدهشة، فهو قادرٌ على تصوير الحلم المكتوب بلوحة مرسومة، ومنذ الوهلة الأولى لرؤية أيِّ عملٍ من أعماله سيكون التصوير حاضراً، وكأنَّه يرسم قصيدةً ما ويستخرج الصورة الشعريَّة من إطارها اللغوي إلى البصري. ويبدو ذلك واضحاً في الكثير من اشتغالاته، خاصة لوحته "عازفة التشيلّو" التي رسمها على لوح خشبي بألوان السوفت باستيل، إذ تجد نفسك أمام نصٍّ عاطفيٍّ مصور، فكيان اللوحة يمكنه أن ينقل المُشاهد حسب تأثره العاطفي ومشاعره الذاتية عبر اعتماد الفنان تفكيره الشفيف في الإخراج. لستُ مدعياً هنا فهذه هي الكتابة النصيَّة البصريَّة باختصار، إذ إنَّ حضور الحب يبدو واضحاً وإن كان بخطوط جانبيَّة، لكنّه حاضر بقوة عبر اللون البارز الذي يؤطر ظلَّ الشخصية المرسومة. أي أنَّه يريد أن يعلن عن أساسيات الحياة بطريقته الفريدة، فاللوحات الواقعيَّة عادةً ما تحلل ذاتها ولا تحتاج لدراسات عميقة كبقية مدارس الفن، لكن الياسري أراد أن يبدل هذا المفهوم فرسم الواقعية بكلاسيكية تعبيرية وأبدع في تصوير المشهد بملا يتلاءم مع الإخراج الفني، وأثبت أنّه فنان مهم وأهميته تأتي من استقلالية رؤيته في الإنتاجية الذوقيَّة الطاغية على أعماله بانطلاقة بصريَّة فنيَّة وجماليَّة وقيمة معرفيَّة وفلسفيَّة شخصيَّة فرضت هيمنتها على المشاهد.

إنَّ استخدامه للحب كتعبير صوري في لوحاته مع اختلاف المدارس التي يعتمدها في الرسم جعل منه فنانا يمتلك هويته الخاصة، وهذا واضحٌ جداً كما في أعماله التجريديَّة كلوحة "خيط المودة" التي رسمها بألوان الأكريليك على كانفاس، هي وحدها تحتاج لأكثر من قراءة لأنّه صوّر التبدلات الحياتيَّة بمجرياتها كافة، ولم يتخلَ عن فكرته الخاصة بالحب، فقد احضره في نهاية المطاف باعتباره أداة الحياة التي تعتمدها لاستدامة وجودها. 

يميز الياسري دقّة الخطوط وانتظام التشكيل، وكأنّه يصوّر بجهاز رقمي لا يرسم بريشة، كما في لوحته "ثلاثيَّة المرأة" التي رسمها بالرصاص والمرأة المتزيّنة بزهرة الجوري، واللوحات الأخرى التي تناول فيها المرأة كان احترامه لها ككيان إنساني حاضراً بقوة والخط والظل الأحمر المعبّر عن حالة وأثر الحب موجود دائماً، حتى أن بعض لوحاته اعتمدت الحب كعنوان لها، وليس بعيداً عن الحب فلو عدنا لأعماله التي تناول فيها الطبيعة سنجد دقة الخطوط ذاتها وبراعة التصوير والتشخيص وكذلك الإمكانيَّة التعبيريَّة، فهو يرسم بواقعيَّة ويُخرج بكلاسيكيَّة ويصوّر بتعبيريَّة. 

الشموليَّة منحت هذا الفنان سمة الإبداع واستخدامه لأدوات التصوير عظّمت من حضوره، فقد رسم بالقلم الواحد والزيت والخشب وأوجد لشخصيته الفنيَّة حضوراً مستقلاً عبر أعماله التي حاول عبرها أن يبتعد عن التقليد كثيراً.

وأعتقد أنَّه نجح، فالإخراج الفلسفي للوحاته يضع المشاهد بمواجهة دهشة تأثريَّة عاطفيَّة خاصة بأعماله التي تناول المرأة والطبيعة، وكذلك التي رسم بها شخصيَّة الإنسان، وأعماله ذات الطابع التجريدي، فنادراً ما نجد فناناً تشكيليَّاً شاباً يبدع في إيصال رسالته الواحدة باعتماده على أكثر من مدرسة فنيَّة، فهو حقيقي رغم خصوبة خياله وواقعي رغم تجريديته. 

وهنا أعتقد أنّه وقف أمام نظرية افلاطون التي يعتقد بها أن الفن هو محاكاة للطبيعة ونقل صورة من الواقع (صورة مقلّدة ومن وجهة نظره زائفة)، فالحقيقة في أعمال الياسري واضحة جداً وجليَّة. ونحن كمجتمع شرقي نعتمد كثيراً على الحب والمحبّة في تسيير أمورنا الحياتيّة ونتأثر ونؤثر في بعضنا بعاطفيّة قد تصل للتطرّف في مواطن عدة، لذا القول بأن الفنان اعتمد حضور الحب في أعماله هو قول فصل معتمد على المشاهدة النقديَّة الانطباعيَّة لأعماله. الياسري كما قلتُ في البداية تمكن بإرادته الحرة من تحويل الوجهة الفنيَّة التخييليَّة العاطفيَّة الثابتة إلى البصريَّة المتنوّعة، فتوجهه الفكري يعتمد الجانب العاطفي الإنساني، وكأنَّه جزءٌ لا يتجزأ من كينونة الفنان، الذي يجيد التعبير عن الاستعارات الجماليَّة حين يحولها من العالم البلاغي النفسي ذي التأثير العاطفي الى الصورة الفنيَّة أو المرئيَّة الماديَّة.