مدخل في منهجيَّة النقد السيميائيّ

ثقافة 2023/02/28
...

  محمد صابر عبيد


تحتل قضايا المنهج النقدي عموماً -على مستوى الرؤية والتصور والإجراء والفعاليّة والحضور- المساحة الأكثر خصباً في التفكير والتنظير والتطبيق داخل المدونة المعرفيَّة الحديثة، وهو ما انعكس ضرورة على النظريَّة الأدبيَّة في إجراءاتها النقديَّة على صعيدي التعدد والتنوع، فإذا كان تعدد المناهج النقديَّة دليلا حيّاً على خصب العقل الإنسانيّ وفاعليته ورفضه السكونيَّة والثبات والكسل والقناعات النهائيَّة.


 فإنَّه في الوقت ذاته دليل على تمدّد وانفتاح وخصب الحقل الأدبيّ الذي تشتغل فيه تلك المناهج، وما تطلع في أرضه من ثمرات جديدة ومغرية ومثيرة على الدوام ومن دون توقّف أو انقطاع، وما يجري على الأنواع من تجدّد وتحديث على صعيد الاستخدام اللغويّ والتمثيل الرؤيويّ والفضاء النصّيّ، وهي تستعين بقوّة المنهج وشمولية الرؤية وصولاً إلى أمثل قراءة ممكنة للنصوص الإبداعيّة، وأكثر وأفضل استنطاق حرّ وجماليّ للظواهر الأدبيّة في سياق حركيّة الأدوات النقديّة في التحليل والتفسير والتأويل، يمكنها أن تجيب عن أسئلة النصّ بقوّة ووضوح في منطقة التلقّي.

تتحرّك هذه الرؤية المنهجيّة في هذا السياق على النحو الذي يكون بوسعها الكشف عن حيوية هذا الفهم وحراكه وشغله داخل كيان الشكل، ومن ثمّ وصف فعاليته العلاميّة التي تصوّر حساسيّة ذلك وتنتج معناه من خلال الكيان الوجوديّ العام للإنسان، ومن خلال فلسفة التوجّه نحو صوغ النظام الدلاليّ في الأشياء والرؤى المكوّنة لهذا الوجود داخل أعماق الدوال ونظم تشكيلاتها، إذ لا تنفصل النصوص الأدبيّة ولا المناهج النقديّة عن حيويّة العالم في منظوره الوجوديّ الحاوي للأشياء والمفاهيم والممارسات، بما يجعل وحدة العالم المعرفيّة هي أساس كلّ نشاط معرفيّ يسعى إلى تمثيل هذا العالم والاستجابة لمعطياته والإجابة عن أسئلته.

يعمل هذا الفكر المنهجيّ في إطاره الفلسفيّ على توصيف الوجود لغرض فهم الإنسان في جوهره الإبداعيّ العميق عبر حركة الدوال في النصوص والظواهر، والكشف عن قدرة وسائل التعبير وأسلوبياتها للتوصّل إلى هذا المناخ في الفهم والإدراك والتمثّل، على النحو الذي يبرّر جدوى الفعل المنهجيّ العامل على النصوص والتوغّل في طبقاتها وزواياها وظلالها كافّة، وتفكيك ما تنطوي عليه من قضايا وقيم وجماليّات ظاهرة أو مضمَرة تحوز على هذه العناية بأعلى درجة ممكنة.

لا تتوقّف منهجيّة النقد السيميائيّ عند حدود النصّ بآلياته البنيويّة الصارمة المكتفية بذاتها والمغلقة على نفسها - كما يرى الناقد البنيويّ رولان بارت - بل تنفتح على أنموذج الخطاب في اتصاله الفاعل بالمتلقي وما يحيط به من ممكنات وأنشطة وتمظهرات إنسانيّة شديدة التعدّد والتنوّع، وامتداد حدوده عبر الفضاء الثقافيّ العام المشكّل للرؤية النصيَّة في سياقها الجماليّ والتمثيليّ، بحيث يتجلّى فهم الإنسان داخل وسط كثيف وثريّ وعميق من الحساسيّة الثقافيّة العامة، وهي تتداخل وتتماهى وتتحايث مع الحساسيّة النصيّة لتؤلّف هذا الجدل المعرفيّ الذي يقود إلى إنتاج المعنى.

لعلّ من أبرز خصائص منهجيّة النقد السيميائيّ - في ضوء مفهوم الخطاب- هو الاهتمام بالصورة العامة للقارئ بوصفه شريكاً مركزياً في هذه الفعالية المنهجيّة، بل عليه أن يصنع رموزه الخاصة به عبر فعالية استنطاق حيّة لجوهر ثقافته القرائيّة وهو يقارب النصّ مقاربة تأويليّة، لا تأخذ في الحسبان ما يمكن أن تتجلّى فيه مقصديّة الكاتب داخل حدود النصّ وفي جوهره السيميائيّ، بل تتجاوز ذلك نحو الانفتاح على فضاء أوسع يتضمّن تطوير الفعل القرائيّ لتوكيد دور القارئ في إعادة إنتاج 

النصّ.

ينتهي القارئ السيميائيّ في هذا المضمار إلى حصيلة قرائيّة ذات قيمة إنسانيّة عالية، هي نتيجة طبيعيّة لقوّة الجدل المعرفيّ بين ثقافة القارئ من جهة، والخصب الفنيّ والجماليّ والإبداعيّ للنصّ من جهة أخرى، ويصل من خلال ذلك إلى إدراك الرؤية العميقة والمقولة الكبيرة التي تتنكّبها النصوص وتقترحها الظواهر في مرجعيّـها الفنيّة والجماليّة والفكريّة على حدٍّ سواء، على النحو الذي ينتج فهماً عالي المستوى والقيمة وإدراكاً عالي الحضور لخصوصيّة الخطاب ورؤيته وجدواه الإنسانيّة.

يجب أن تتجلّى القراءة السيميائيّة إلى الدرجة القرائيّة القصوى التي يكون بوسعها تمثّل الحركة العلاميّة في الطبيعة والكون والإنسان، بحيث تجيب عن أسئلتها الكبرى الكامنة في نسيج النصّ؛ وتخلص من ذلك - في المستوى الإجرائيّ- إلى تقويم ووصف الحركة الداخليّة للنصّ التي يمكنها أن تنتج القيمة وإشكالية المعنى، وتقود بعد ذلك إلى فضاء الفهم والتأثير والإدراك والمتعة والتوصل بكلّ الجماليات الكامنة في جوهر النصّ خدمة له وخدمة لوعي القراءة وجوهر العملية الإبداعيّة برمّتها.

إنَّ الدراسات النظريّة والإجرائيّة والتداوليّة التي حظي بها المنهج النقديّ السيميائيّ عكست القيمة المعرفيّة والرؤيويّة التي تمتّعت بها هذه المنهجيّة، من خلال تلك الأبعاد التي قدّمتها بوصفها رؤية عميقة تمثّل مساراً معرفياً جديداً في المقاربة والقراءة والنقد، على النحو الذي أفرز خصائص نوعيّة بارزة ومتفرّدة للسيميائيّة بوصفها منهجاً نقدياً فعّالاً يتصدّى لحركيّة الدوال الفاعلة وتموّجاتها في تكوين النصوص والظواهر، التي من خلال تحليلها ينكشف جزء خفيّ مهم من المعرفة الثاوية في جواهر هذه النصوص والظواهر وأعماقها، بقدرٍ عالٍ من الحيوية والجمالية والموضوعية تفضي إلى قراءة ناجحة تمسك بالعلامات الرئيسة المكوّنة للعالم النصيّ.

يتمثّل هذا الفهم عبر حيوية الفاعل السيميائيّ المنتج للنص بأركانه وطبقاته كلّها؛ وبقدرته على بناء فضاء يسمح للدوال بالحركة ضمن الضوابط التي وضعها لها في إطار الاستجابة الحيّة لفعاليّة القراءة على مستوى الأداء والجدوى والحصيلة القرائيّة في نهاية المطاف.