انهيار الخطاب الأمومي وصعود السلطة الأبويَّة

ثقافة 2023/02/28
...

  ناجح المعموري


إن الانقلاب الفكري الخطير، الذي حصل في الحضارات الشرقيَّة، متمثلا بانهيار سلطة الأمومة الكبرى وصعود السلطة البطرياركية التي لعبت دوراً كبيراً في انتاج خطابها الثقافي والتدخل لإعادة النتاج السابق، لا سيما أن أغلبه كان رواية شفاهية، حازت الذكورة/ البطرياركية موقع الصدارة في السلطة الدينيّة/ السياسيّة. وحازت السلطة الشمسيّة على قوتها عبر ذكورتها. ولم يكن للأم الكبرى من دور غير استقبال الذكورة بفحولتها حتى يتحقق الخصب في الحياة. وقال د. يوسف حوراني: لقد تخيل الإنسان أن الالهة قد يتصلون مباشرة بالناس في عملية الجنس ولذلك صدى في العهد القديم.. واستحضار الرغبات بالتماثيل الطينية هو في جوهرة عملية مماثلة لاستحضار الأشياء بصورها أو رموزها وتسمياتها في الذهن.


وإن شددت الحضارات القديمة على الجنس ورموز الجنس في كل علاقة للإنسان مع المطلق، فلأن الجنس ذاته، حين العودة به إلى جوهرة، هو علاقة كونية مستمرة تتبدى في استمرارية الحياة، وتخطي الكائن الفرد به، كما تتبدى بقدرته على استيعاب شوق الإنسان وحنينه وقلقه وجميع المشاعر الغامضة البواعث التي تنتابه.

وكشفت نبشيات الآثار عن أقدم معبد في التاريخ الحضاري في [اريحا] بفلسطين، وهذا المعبد يعود لما قبل الألف السابع ق. م، أي على الحقبة النطوفية، حيث وجدت تماثيل لأغنام وماعز وأبقار وخنازير.

وكان هناك عصر جنسي جرت خلاله جميع الأمور على وفق الشعائر، وجعل العضو الجنسي الأداة المسيطرة حتى في تفسير خلق العالم.. وكانت القوة الجنسية المولدة هي العبادة عند الاقوام البدائية، لأن الالهات كانت تعتبر قواها الجنسية المجسمة، وكانت البكارة تضحى للالهات بغية نيل رضاها. وكانت شريعة حمورابي منقوشة على حجر بشكل عضو الذكر التناسلي. وكانت منطقة الجبار في «الفلك» تسمى بالعضو التناسلي.

لقد صارت الخصوبة أمراً متمركزاً في وعي الإنسان العراقي القديم وكرّسها تماماً مع حياته ودمجها في عصب الديانات السائدة آنذاك. ولذا كان الجنس والخصوبة هو المهيمن في العقائد التي استولدتها الديانة العراقية قديماً. الديانة التي تبدّت في العديد من طقوسها، ناقلة معها الخصوبة باعتبارها بنية كلية كبرى انصهرت فيها مجموعة من البنى الصغيرة التي صاغت مدارات أخرى للديانة، ولأن الإنسان عاش مباشرة في الحياة ونظم علاقته مع ما فيها من بشر ونبات وحيوان، تداخلت هذه واياها في منظومة الخصب الحيوية وادرك بان استمرار قوة المجتمع يتوقف بدوره على كثرة نسل هذه المجتمعات. وفوائد الطبيعة والكوارث والحروب التي كانت تعترض حياة الخصب والتكاثر حيث جعلت أماني الإنسان مرتبطة ارتباطاً جوهرياً بدورة خصب الأرض والحيوان وبتكاثر النسل، عدا البعد الميتافيزيقي والعاطفي الذي يحيط بمشاعر الجنس فيضخم تأثيرها على الإنسان. ولذا ابتدأ بنشر رموزه الخصبة وطقوسه في كل الظروف والمناسبات، ولهذا نحن نجد رموز الخصب ومظاهره ملازمة للالهة في أرض كنعان والرافدين. فتماثيل الآلهة الأم، منذ أقدم الأزمنة تصورها كبيرة الردفين والوركين، وأنها تضع يديها على ثدييها، أو أنها تحمل إناء تتدفق منه المياه. كما نجد عدداً من الالهة على الاختام القديمة تبرز من اكتافهم أو أيديهم النباتات أو سنابل القمح، وذلك منذ الالف الثالث ق.م.

لقد انطوت طقوس “الزواج المقدس” على وظيفتين الأولى هي القيام بدور ناظم أو ضابط للزمن الزراع، بحيث أن تلك الطقوس جسدت أحد اشكال التعبير عن نشوء التوقيت والتقويم، أما الثانية فقد كمنت في تعبئة البشر لتصور التفاؤل التاريخي ذلك الذي يتحدد من خلال حركة العود الأبدي، وهنا بالذات نتعرف على الجذور الأساسية لنشوء وازدهار ظاهرة “التنبؤ بالغيب والاهتمام بحرية الافلاك لدى الاكديين وأهل وادي النيل، إذ من شأن ذلك أن يسهل عملية ضبط تلك الحركة الخاصة بـ “العود الأبدي” أما الوجه الثاني من “الزواج المقدس” الذي يدخل في أبعاد ذهنية الجنس العربية ويتمثل بـ “كونية” هذا الحدث، فهو يعبر عن النظر إلى هذا الزواج على أنّه مركز الفعل الكوني. إن الكل بالكل يتجسد في هذا الحدث الباهر، الفريد. بيد أن فرداته هذه تمتلك حدودها، وتتضح في إطار الوجه الأول من المسألة، وهو التفاؤل التاريخي ضمن آفاق “عود ابري” للحدث الطبيعي. هذا يعني أن تصوري التفاؤل التاريخي وكونية الحدث يتشابكان ويتداخلان، بحيث أن الواحد منهما يشير إلى الثاني ويعلن عنه. 

يبقى الوجه الثالث من الزواج المقدس، وهو موسمية الحدث، فما يتم على صعيد الوجود الزراعي/ الجغرافي/ والبيولوجي الجنسي، ذو طبيعة متفردة ومعممة، في آن، إنه يحدث مرة، وكل مرة، وهذا من طبائع الأمور في مجتمع يحمل تلك السمات، التي أتينا عليها.. إنه يحدث، حيث تصبح الأرض بعبق الزهور، والسماء بتغريد الطيور، إنه يحدث حيث شذى الأرز يبلغ الخياشيم، الظافرة في المعركة مع الجفاف والقحط [العقم].

ويحدث العرس الإلهي، أثناء المواسم الطيبة، مواسم الخصب الجنسي “الطبيعي” والجنس المخصّب، وهذا يتبدى بتقديم الضرائب المتكونة من غلال الروابي والسهول ومن الماعز والأغنام. ويغدو العريس الالهي والعروس الالهية حقيقة كونية كبرى وبهما يبدأ النهار الجديد بعد ظلام طويل وبهما تحل - المعجزة - فتقوم القيامة ويحل الخلاص.

وفي وصف لعملية الجنس بين الالهة كما تخيلها “جودياً” حاكم لكش فحفظتها لنا نقوش تمثاله نعرف كم كان الفعل الجنسي الإنساني مرتبطاً باللاهوت القديم وعقائد الخصب فيه.

 ويصف هذا النص الزواج المقدس الذي يتم الاحتفال به في الهيكل موسمياً، إذ إن العقيدة القديمة في الخصب كانت تفسر مياه الري بأنّها نتيجة جماع إلهي.       

ومن الخطأ اعتبار هذه الظاهرة أقل من علاقة كونية يرعاها حس عميق باطن. وفق قانون طبيعي عام كقانون النمو والنضج ذاته، الذي يكمن في أساس الجنس. ووفق هذا الشعور بسلطة الجنس في الطبيعة، كان لا بدَّ من جعل الطقوس الدينيّة مرتبطة به مباشرة أو بالخصب الناتج عنه. ولهذا كان أهم محتويات معبد أريحا القديم شكل يمثل عضو الرجل الجنسي، مما دعا «اولبريت» إلى افتراض أن ابناء العصر النطوفي الذين عاشوا ارض كنعان قبل ما يقارب عشرة آلاف سنة كانوا يتعبّدون للعضو الجنسي. ويبدو أن الانصاب التي وجدت في نبشيات معبد جبيل بشكل مسلات في الالف الثالث ق. م، لم تكن سوى انصاب رمزية لعضو الجنس، رمز الاستمرار والخلود.

كانت الخصوبة/ الانبعاث الزراعي، مرتبطة ارتباطاً وثيقاً مع القوة الجنسية/ الذكورية، إنسانياً وحيوانياً، إذ لم تستطع البنية الذهنية الاسطورية العزل بين البشري والحيواني في مجال الخصوبة، وإنما وحدت بينهما والعلاقة الموجودة بين الخصوبة الحيوانية والزراعية والبشرية علاقة واحدة ومتّحدة مع بعضها البعض. صارت الفعلية الجنسية منصهرة كلها وبتنوعها بفعل جنسي واحد يؤدي إلى فعل آخر، أكبر منه، يحتويه ولكن لا يذوب فيه واعني به الفعل الاتصالي الرمزي الكوني، والمتبدّي بحركة الفصول، وخروج فصل ودخول فصل آخر. لذا اشار العالم المعروف هنري فرانكفورت إلى أن الحياة في بلاد الرافدين مكيفة ومرتبة ومرتبطة بحركة وتعاقب الدورة الفعلية وتقدمات وأضاحٍ، برز ضمن ذلك الاطار، بمثابة فعلٍ عام وخاص، وكان يجسد رمزاً تطبيقياً للعلاقات بين الظاهرات الطبيعية، فالماء يتزوج الأرض وينتج عن ذلك الوليد السعيد، الغلال الخصبة وبالطبع فإن «زواجاً مقدّساً» يقتضي وجود «عريس مقدّس»، هذا العريس هو الذي يخصب الوجود الكائن ويثمره ويغنيه، وإذا غاب أو انهزم فإن في ذلك ما ينطوي على العقم والقحط والبؤس، ومن ثم المأساة.

لقد اعتقد به القدماء كفعلٍ كونيٍّ يجمع بين الواقع واللاهوت ويربط بين الفرد والمطلق ويحمل من القداسة بقدر ما يحمل من كوامن الخلود. ولهذا تخيلوا حركة الطبيعة ذاتها موجهة بدوافع الجنس التي توجه حركة الإنسان.. واعتبرت العملية الجنسيَّة مشاركة لاهوتيّة حيث تمثل المرأة دور إلهة الجنس ويمثل الرجل بعل

الجنس.