وجه الحقيقة الضائع

ثقافة 2023/03/01
...

أحمد عبد الحسين
تحضر الواقعة السورية، بفواجعها كلّها في كتاب خالد سليمان الناصري “بلاد الثلاثاء” الصادر عن دار المدى. لكنها تحضر من دون تلك التقنيات الشعرية التقليدية التي تخفّف من ثقل الواقعة وفداحتها و”واقعيتها”، فهي خالية من إعدادات تجعل المكتوب قابلاً للقراءة من دون أن يشير إلى الدم والدموع اللذين كُتبا به.

ليست القصيدة هنا مجرد عمل احترافيّ جماليّ منبتٍّ عن حمولته الفجائعية التي نلتقطها في عواجل الأخبار، لكننا نلتقطها هنا بعين الضحيّة ذاتها، الضحية التي هي ذات الشاعر وصوته، إلى حدّ تبدو القصيدة أشبه بدعوة لنا نحن القرّاء إلى أن نشارك الضحايا ذات النافذة التي يرون منها العالم.

لهذا تتلبّس القصيدة بالوضوح، ويبدو أن الوضوح منجانا الأخير في هذا التيه المعمّى الذي يريد أن يخلط وجوه القتلة والمقتولين ليلتبس الأمر علينا. يسمّي الشاعر أسماء قصائده بأسماء مغدورين ماتوا وفي أفواههم رغبة بالكلام، أولئك الذين لم يكن لهم صوت ولم يكنْ أحدٌ صوتهم، يستعير الشاعر ألسنتهم وأسماءهم. في قصيدة “حمزة الخطيب”:

(يا حمزة كيف لك أن تكون منتفخاً وواضحاً هكذا رغم هذي الثقوب؟)

وفي قصيدة بعنوان “إبراهيم القاشوش” نقرأ:

(ننصت لهذا الرحيل كله، ننصت ونتذكر، لكن الذاكرة تضرب الآن بالهراوات والرصاص، أية ذاكرة متورمة ومثقوبة ستكون لنا؟)

وليست القصيدة عند خالد الناصريّ إبحاراً في المجرّد، في فكرة الموت والخراب، بل تلمّس لأيدي ووجوه المغدورين، هي تعيد علينا هيئة المناحات التي كتبها شعراء العراق القدامى “مناحات أور” التي يخرج من يقرأها وفي باله مشهد شاعر جوّال يدور في الأزقة الملأى بالجثث التي تركتها العاصفة.

في قصائد مؤذية كهذه، نحو من أنحاء السير ضدّ مجرى الشعر السائد في قصيدة النثر الذي تسفر قراءته عن خلاصة مؤداها أن للشعر قدَراً في أن يغدو شهادة على ذاتٍ هي ذات الشاعر غالباً، وتوقاً إلى عرض هذه الذات في انكسارها وضعفها أو تسمية شؤونها الأليفة، ففي “بلاد الثلاثاء” لا تكاد تتلمس هذه الرفاهية، رفاهية أن يدلّ الشاعر على حياته، وإذا قُدّر لك أن تعثر على ما يشي بهذه الحياة، فلن تجدها إلا بوصفها قطعة منتقاة من هذا خراب عميم.

لا تترك الوقائع الكبرى للشاعر حرية اختيار نافذة يطلّ منها على العالم، وكلما كانت الواقعة أفدح قوي سلطانها في اختيار مقعدنا أمام الشاشة، كما قويتْ قدرتها على خلق نظرتنا وتثبيت الهاجس الذي نباشر به الرؤية، ففي تضاعيف شعر منشغل بهول ما يقع لا تجد مزيد تأمّلٍ يفترض إغماضاً مؤقتاً عمّا يحدث ومراجعة ما يمكن أن يقال عنه. وإذا كان للشاعر عينٌ تتوجّه إلى داخل ذاته لرؤية ما خلّفه الخارج فيها، فإنّ الشاعر في هذا الكتاب يستعيض عنها بعينين، كلتاهما مشدودتان إلى خارج يبدّد أية فرصة للتأمّل.

لهذا لا تخلو كثير من قصائد الكتاب من منحى تفسيريّ ضاغط، تحتمّه رغبة الشاعر الملحة في استيفاء المشهد كاملاً، فنحن نضطرّ إلى التفسير عادةً حين يلوح لنا أن ما نقوله عصيّ على التصديق، كأنما الشاعر يخشى ـ لهول ما يصف ـ أن يكون عرضة لعدم الإقناع، فيلجأ لتثبيت تواريخ وإيراد أسماء وتشخيص ضحايا وقَتَلة وأناس يتساقطون ولا يعرفون لماذا. وهو في ذلك كلّه، يكسرُ فهماً ألفياً عن الشعر بوصفه إقناعاً دون براهين ودلائل، فهنا يترافق التدوين الشعريّ مع سجلّ للوقائع في إشارات مباشرة تروم إنشاء قول للإدانة الصريحة بالتزامن مع القول الشعريّ.

لا اعرف إن كان التشبيه دقيقاً هنا، لكني أرى عمل الناصريّ هنا أشبه ما يكون برسم البوستر الشعريّ، مقارنة مع اللوحة، إذ يفترض البوستر ألواناً أقلّ وتشخيصاً أكثر ودلالات تذهب إلى هدفها مباشرة دون تعمية.

كتب الشاعر قصائد هذا الكتاب وهو مشدود للنصّ على حقيقة يراها عياناً، وهي تتجاوز الشعرَ بما هو كلمات، لتصل إلى صفوة ما يراد أن يقال أيضاً بالصمت والبكاء والغضب.

أريد أن أؤمن ـ مع صديقي المعتّق خالد الناصري ـ بخلاصة أعتبرها خلاصة حياتي: بالشعر، وبالشعر وحده، تستردّ الحقيقةُ وجهها الضائع، ويلتئم جرح العالم.