ما بعد الكوجيتو الديكارتيّ

ثقافة 2023/03/01
...



كه يلان محمد

شكل التواصل مع الواقع وإدراك معطياته من الموضوعات اللافتة لانتباه المتابعين لمصادر المعرفة إلى أن تحول هذا المجال إلى مبحث مستقل شغل عدداً من الفلاسفة، إذ ذهب البعض من هؤلاء إلى وجود معرفة مسبقة في ذهن الإنسان، وبرأي غاليلو أن عالم الظواهر عبارة عن حكاية يرويها أحمق إذا لم يكن الوعي بالأشكال الهندسيّة مسبقاً على التجربة العيانيّة. بالمقابل يعتقد أصحاب المذهب التجريبي بأن عقل الكائن البشري بمثابة صفحة بيضاء وما يتلقاه العقل عن طريق الإحساس يصبحُ عاملا رئيساً لتفعيل الاستعدادات الفكرية.

ومن المعلوم أنَّ الجدل بشأن هذه الإشكالية له امتدادٌ على أرضية المدارس الفلسفية لكن ما يهمُّ على هذا الصعيد هو اللحظة الديكارتيّة ودور صاحب «مقالُ في المنهج» في اكتشاف درب تتسلسلُ على خارطته حلقاتٌ من التفكير والشك واليقين، فكان كل شيء بالنسبة إلى ديكارت واقعاً ضمن حزام الشك بما فيه الفكرُ والوجود، غير أنَّ ما أعاد ترتيب أوراقه الذهنية وسحبَ فتيل الافتراضات عن تدخل القوة الخارقة للإيحاء بصور وأفكارٍ خاطئة هو الشكُ، عليه لم ينكرْ منطقه حقيقة الشك، وبذلك تمَّ التأسيس للمبدأ الديكارتي الذي يقومُ على جدليَّة التفكير والانوجاد.


البديل

نحن بصدد الحديث عن هذا المعطى الفلسفي لا بدَّ من السؤال هل ينسحبُ ما توصل إليه ديكارت على البشر في كل العصور ويعيدُ الإنسانُ اكتشاف وجوده من خلال التفكير؟، أو ربما يحلُّ مكانَ التفكير عنصرٌ آخر يقطع الطريق على شك بقيمة كينونة الذات؟. هنا ما يلوحُ من بين الخيارات البديلة هو المال لا سيما في العصر الرأسمالي إذ قدمَ مقولة بديلة “قل لي ماذا تمتلك أقل لك من أنت” على هذا النحو لم تعد الماهيةُ وقفاً على إرادة التفكير والعمل. من جانبها أرادت الفيلسوفة الفرنسية إلزا غودار، الإشارة إلى التحولات الجذرية في العصر الافتراضي، من خلال نحت كوجيتو مُعارض لما قدمه مواطنها في القرن السابع عشر، فالإنسانُ في الألفية الثالثة وفقَ ما يفيدُ به عنوان كتابها “أنا أو سيلفي إذن أنا موجود” يقيم العلاقة مع ذاته بناءً على المُعطيات الرقميَّة، وما يلبي الرغبة واللافتُ في هذا العالم هو تغول التمثيل البصري وتلاشي المُخيلة. صحيح أنَّ التواصل مع المحتويات الرقميّة لن يكون إلّا برقياً لكن مع ذلك لا يمكن الاستخفاف بتأثير ما يضخ على هذه المساحات المنبسطة أفقياً إذ غابت سلطة الرقيب وما يدور في الافتراض قد يسمعُ صداه في الواقع بمعنى أنَّ الحدث قد يبدأُ افتراضاً ومن ثمَّ ينحوُ منحى واضحاً في الواقع.


عدوى مزمنة

لا يصح تجاهل فوائد وسائل التواصل الاجتماعي ودورها في فتح آفاق أمام الفرد، ما زادَ من مساحة حريته وتعميق وعيه بالواقع، ومن الواضح أنَّ حراك المجتمعات العربية كان وليد التكنولوجيا الجديدة، ولولا المنصّات الرقميّة والثورة المعلوماتيّة، لما امتدت موجة الغضب إلى كل الأنحاء، غير أنَّ ذلك لا يحجبُ مخاطر ما سميت بظاهرة الإدمان على الكلام في الفيسبوك، إذ أصبح الكلامُ عدوى مزمنةً. الأمر الذي يعطلُ التفكير والتأمل والعمل في الوقت نفسه، والحال هذه لا يمكن التغافل عن التحولات المرافقة للثورة الرقميّة، ورصد تمظهراتها المتنوعة، لأنَّ ذلك كله يلقي بثقله على نمط الحياة ويكون له انعكاسٌ واضحٌ على المستوى النفسي؛ لذا تعتقدُ إلزا غودار بأنَّ السيلفي من خلال تبدياته التافهة والمتعددة، رمز لمجتمع في عز تحولاته، ويأخذُ الشباب بناصيته نظراً لتمكنهم في التكنولوجيا الحديثة. تتساءلُ الفيلسوفة الفرنسية عن الشكل الذي تتخذه علاقة الإنسان بنفسه، في ظل انقياد الأفراد وراء رغبة التقاط الصور ونشرها في وسائل التواصل الاجتماعي. فالمجتمعُ حسب رأيها تحول إلى حلبةٍ لعرض أنواتنا، وذلك يتعلق بغريزة حياتية “إيروس” تعبر عن ثورة إيروسيَّة، لكن الإيروس لا ينفصل عن نقيضه تاناتوس، وهذا ما يذكّر بفرويد الذي ذهب إلى وجود ارتباط بين الغريزتين التدميريّة والجنسيّة. أضف إلى ما ورد سابقاً أنَّ إلزا غودار لا تنكر البعد الجمالي في السيلفي وما تعنيه مشاركته مع الآخر، لكن ما يبدو تواصلاً مع غيرك عبر النت قد يثقل عليك الشعور

بالوحدة.


حلم مداعب

الحلم الذي داعب خيال الفلاسفة والعلماء باختراق الإنسان لمشروطيات الجغرافيا والامتداد خارج بيئات مُغلقة أخيراً قد تحقق في العصر المعلوماتي عندما تم إيجاد شبكات عابرة للحواجز القوميّة والمُجتمعيّة، لكنَّ هذا التطور لا يُعلي فعلاً من شأنِ حقيقة الروابط الإنسانيّة بقدر ما تُمثل تلك الشبكات يوتوبيا الفضاء السيبراني، وتضيف إلزا في هذا السياق موضحة، أنَّ الشبكات هي عامل لإفقار الطابع الاجتماعي عوض أن تدعمه، ومن المظاهر التراجدكوميديّة للرقمي هو عصا السيلفي، التي أودت بحياة عدد من مُستعمليها، كما حصل لسائح من بلاد الغال، إذ ضربته صاعقة أثارتها المادة الحديديّة في العصا. واللافت برأي إلزا أنَّ عصا السيلفي قد حلت بديلاً لليد الأداة أكثر نفعاً وهي امتداد للعقل والذكاء البشري. ويطالُ التغييرُ أيضاً علاقتنا بمفهومي الزمان والمكان مع الشاشة، يكون الإنسان مُتصلاً بالاستمرار وينكفئ كل من الزمان والمكان أحدهما على الآخر، وتُطلق إلزا عبارة الـ”هنا الآن” على هذا الطور الوجودي إذ يتميزُ بسقوط البناءات الإرادية للمستقبل مقابل صنميّة المعايير الاستهلاكيّة هنا، تستشهدُ صاحبة الكتاب بمقولة نيكول أوبير “الفرد يتحركُ استناداً إلى الغلو” ولن يكون الاقتصاد واجهةً وحيدةً لهذه الصفة، بل يمكن معاينة الغلو والبالغ الامتلاء وفق طرق مُتعددة. ما يكسبُ مفهوم الغلو دلالة جديدة هو تحرك الإنسان خارج المجال وخارج المكان، فالغلو أصبح عبارة عن التصاعد الدائم لا يمكن أن يتوقف كما يؤكد صحة هذا الرأي التبذير، وتناول المنشطات والرياضات المغامرة والقتل المُتسلسل.

زمن الشاشة

من الفلاسفة الذين تتواردُ آراؤهم في طيّات هذا المؤلف هو جان فرانسو ليوتار، الذي يرى بأنَّ ما يسود من القلق في الوسط الفلسفي بشأن مفهوم التواصل لا علاقة له إطلاقاً بالقضايا الفلسفيَّة والسياسيَّة الكلاسكيَّة، التي تهتمُّ بمعطيات مؤسسة لعيش مشترك، كما أنَّ التعاطي مع الزمن في ظل تغلغل التكنولوجيا إلى مسامات الحياة أصبح مُختلفاً، فالفضاء الزمني مع الإنترنت يختصر إلى الشاشة التي تجمع بين المتواصلينِ، عبر بعدين مُفرغاً من العمق. 

ومن الواضح أنَّ هذا التطور له انعكاسات في النماذج الثقافيّة، ويتمثل ذلك في انهيار المحكيات التاريخيّة الكبرى، والأخطر في هذا السياق هو الأيقونات الخاصة بالتواصل في المنصات الرقميّة، وقد تصبحُ تلك العلامات والصور لغة بديلة للغةٍ قوامها الكلمات، وهذا يعني أن مجتمع الصورة الهشّة قد حلَّ مكان رؤية العالم التي تستندُ إلى الخطاب العقلاني، إذن تلعبُ الشاشة دوراً مركزيّاً في تحديد السلوكيات والتصورات. ولا يفوت الفيلسوفة الفرنسيّة تناولُ معادلة النخبة والعامة في العالم اليوم، فبرأيها خسرت النخبة وظيفتها المرجعيّة، ينساقُ أفراد النخبة العامة في تصرفاتهم ويقلد النجمُ المواطن العادي وتتجلى وقائع هذا التحول في السيلفي أكثر. وبهذا غدت المعادلة

مقلوبة.


رصد أنثروبولوجي

أخذ مفهوم اللذة باهتمام المدارس الفلسفيّة والمُعالجين النفسيين، كما شغل الإنسان العادي أيضاً وما برح الكائن البشري يبحثُ عن مصادر اللذة، غير أنَّ ما يثير الرغبة مع الغزو التكنولوجي هو الالتذاذ الذي يكون حصراً بالشقِّ الجنسي. تنصرف إلزا في جزءٍ آخر من الكتاب إلى مُناقشة تأثير النت في تحويل حالة الانتحار إلى العدوى قبل ذلك تعودُ إلى رواية “آلام فارتر” التي كانت وراء تصاعد موجة الانتحارات الرومانسيّة في أوروبا، ومن ثمَّ تلمّحُ إلى دور الإعلام التقليدي وتغطيته لأخبار الانتحار. أضف إلى ذلك تعجُّ وسائل التواصل بسلوكيات عنيفة وإقصائيّة، وما تسميه إلزا بتصفية رقميّة. ينزلُ هذا الكتاب ضمن محاولات أنثروبولوجية هادفة لكشف وضعيّة الإنسان في المجتمع الرقمي. يصحُّ أن نقفل هذا المقال بافتراض لو طال العمر بديكارت وأدرك هل يوافق كوجيتو على كوجيتو إليزا؟.