كريشنامورتي والتصوّف الحقيقي

ثقافة 2023/03/01
...

 ضحى عبدالرؤوف المل


يستعيد جدو كريشنامورتي في كتابه «ثورة على العنف» قيمة التصوف الحقيقي في الحياة التي يشحنها بموضوعات حسّاسة تقودنا إلى أن نعزز «شيئاً واقعياً حقيقياً». لا هو أسطورة، ولا هو نظرية. بل صيغة تحرريّة للعقل وللفكر الذي يتشكل من ثورة على الذات بداية، لإعادة تطهير الأفكار من التبعيات المتعددة. إذ لا يكتفي «جدو كريشنامورتي» بالأمور الخارجيّة الظاهرة في حياة الإنسان. بل يتخطاه للوصول إلى حركة الحياة الباطنيّة داخلياً بكل تفاصيلها التي تؤدي الى التحرر من الزمن الماضي الذي يصقله الحاضر بعيداً عن المستقبل، وهو يتشكل من طبيعتنا بعد التعرّف على الذات بشكل تختفي فيه الحواجز والتقلّبات المزاجيّة، للعيش في سعادة مع الآخرين. فهل يمكن الاستماع للنفس ما لم تتحرر من قيود التبعيّة الفكريّة قبل سواها؟، أو حتى التحرر من قولبة التربية التي تسيء للتصوّف بمعناه الإنساني الخام غير المتشوّه عبر الزمن؟، وما معنى الحريّة من دون الاهتمام ببنية الإنسان النفسيَّة؟.

يُجذّر جدو كريشنامورتي الباطن النفسي الذي يتعلق بكل المشاعر التي تنتاب الإنسان وردات فعل جسده، مشيراً الى فاعلية فهم الخوف من المستقبل، ومن الكثير من الهواجس المكتسبة خلال التربية التي تتخذ طريقها عبر الكثير من النوافذ التي تفتحها الذاكرة، لتفكيك العناصر السلبية واستبدالها بالايجابيات التي يحافظ عليها الفكر، وإن ضمن المعتقدات التي يسعى إلى تغييرها كريشنامورتي باستخدام الفكر، من دون الاستغناء عن التحليل النافع. أو بمعنى آخر الوصول إلى منابع الحكمة في العقل الباطن، ومعنى الاستمتاع الحقيقي في الحياة التي يواجهنا الخوف الآتي من المجهول، وهو الشيء الذي لا نعرفه ونخاف منه عبر تهيؤات تفرضها الأنفس القابعة في العقل الذي يثرثر أحيانا. فكيف يمكن تنميتنا حضاريا ما لم تكن الثورة على العنف من عمق أنفسنا أولا؟ وهل يُزوّد القارئ أو الحضور في محاضرة تكشف عن أهمية معرفة الذات والثورة على المكتسبات من دون استسلام للخوف من الموت أو من المتعة أو حتى من كل ما من شأنه أن يغلق العقل ويتركه في حالة من الفوضى النفسيّة؟ وهل البحث عن الحقائق الفلسفية الميالة لتطهير النفس من الشوائب العالقة خلال التربية هي بمثابة تنازلات لا قيمة لها؟.

يكشف كريشنامورتي في كتابه الثورة على العنف عن تساؤلات عميقة هي حقائق نكتشفها في محاضرته التي تتضمن عدة أوصاف للثورة التي تبدأ من النفس والانتصار على الخوف من الذات، والتحرر من العُقد النفسيّة التي تنشأ معنا من الولادة، وعبر إشكالات الحياة التي يعتبرها المصيدة. «ونبذ كل ما بناه الإنسان في داخل نفسه أو حولها» فكل ما هو مخبأ في أعماق العقل نستخرجه وفق مفهومه التحرري من الرواسب أو الصور العالقة في الأذهان المشبّعة بالماضي وذيوله، وكأنّنا أمام أنفسنا وعلينا أن نفهم طبيعة كل متعة في الحياة. لنفهم ماهية الخوف ونقضي عليه. لننطلق في سلام وأمان عبر رحلة يصفها بثلاثيّة الموت والحب والمعيشة، ومع ذلك فإنّ كتاب كريشنا هو أجوبة عن أسئلة الحضور العالقة في أذهانهم التي تبدو في تجاذب وتناقض يجعلنا نفهم ماهية التحرر من الخوف والتبعيَّة، والإصرار على الحقيقة الجوهريَّة التي تمنح الإنسان معرفة وقيمة ذاتيّة. لحقيقة حاضره والتخلي عن الوعي المرتبط بسلوكيات لا تجعلنا نرتقي مع طبيعتنا الانسانيّة، لكي نكون على معرفة بالذات كما يريدها كريشنامورتي.  فإن تحرير النفس من اللاوعي هو العودة الى الأصالة الطبيعيّة للإنسان. فهل التعلّق الدائم بالآخرين هو من الدوافع القاهرة لشفقة نثير منها زوبعة؟، أم أن المعتقدات صقلت الإنسان منذ القدم وتركته يتخبط مع الذات التي تميل إلى التحرر أو تلك التي تتقلب وفق الأفكار القابعة في العقل المتمسك بالخوف؟.