ثمة مفارقة نصوغها بما يشبه النظرية هي: (إنَّ تقدمنا في الزمن يؤدي الى ضعف التزامنا بالقيم). ولعلَّ أوضح مثالٍ على صدق (نظريتنا) هذه هو جحود الآباء وعقوق الأبناء.
ونعني بالجحود هنا نكران الأب لحق ابنه عليه، ونعني بالعقوق تمرّد الابن على أبيه وعدم البرّ به.
ومن متابعتنا للحالات التي تراجعنا وعبر ما يصلنا من رسائل، وجدنا أنَّ أكثر أساليب الجحود شيوعاً في الأسرة العراقيَّة هو تفضيل الأب أو الأم لواحدٍ من أولادهم أو بناتهم على الآخرين، ليس فقط في التعامل السلوكي بل والمادي أيضاً، لا سيما في الأسر الميسورة الحال.
فلقد حصل في حالات كثيرة أنَّ الأب يمنح جزءاً من ممتلكاته الى واحدٍ من أولاده ويحرم أولاده الباقين، وأنَّ الأم تخصُّ إحدى بناتها بمصوغاتها وتحرم أختها
الأخرى.
وهنالك العقوق العاطفي الذي يولّد ألماً نفسياً وشعوراً عميقاً بعدم المساواة التي تدفع الأبناء الى عقوق والديهم وذلك لشعورهم بالدونيَّة في التعامل، وربما يورثونها الى أبنائهم أيضاً، لأنَّ العقوق العاطفي يعمل على تشكيل (ذات) لدى الأبناء تجعلهم يشعرون بالنقص والحيف، ويتضخم لديهم حين يكبرون فيولّد لديهم الإحساس بالنبذ من الآخرين، ويدفعهم الى أخذ حيفهم من أبنائهم حين يصبحون آباء".
وللتفضيل أسبابه، منها: تسلسل الطفل في الأسرة (الأول، الوسط، آخر العنقود)، أو الذكاء، الوسامة، اللباقة، الطاعة، أو الجنس ما إذا كان ذكراً أو أنثى.
وفي ديننا الحنيف ما ينبّه الى ذلك، فقد كان أحد الصحابة جالساً مع النبي (ص) فجاءه ابنه ووضعه على فخذه بينما أجلس ابنته على الأرض، فقال له النبي (ص): هلاّ عدلت؟.. أي أنْ يجعل ابنته تجلس على فخذه الآخر. وديننا الحنيف حذّر الوالدين من أنْ يكونا السبب في عقوق الأبناء، فقد ذكر عن النبي محمد (ص) أنَّه أوصى الإمام عليّاً (ع) قائلاً: (يا علي لعن الله والدين حملا ولدهما على عقوقهما).
والتفضيل وعدم المساواة يؤديان الى خلق الكراهية بين الأبناء والى نفور من الأبوين وعقوقهما.
ولنا في قصة نبي الله يوسف خير شاهدٍ على ذلك. فلقد تحامل اخوانه عليه وشعروا بالغيرة منه والحقد عليه لأنَّه كان يحظى باهتمام ورعاية خاصة من أبيه يعقوب، لأنَّ يوسف كان يتيماً ووسيماً وأصغر إخوانه، وتعلمون كيف كادوا له وألقوه في البئر.
والعبرة هنا، حتى وإنْ كان هنالك تفاوتٌ بين الأبناء في الذكاء والمواهب والشكل فإنَّ على الآباء أنْ يخفوا ذلك ولا يتعاملوا معهم بمفاضلة.
وبالصريح، فإنَّ الوالدين يتحملان ما ينجم عن الجحود والعقوق من نتائج خطيرة، سببها قلة وعي وثقافة الوالدين دينياً واجتماعياً، وأنهما يريدان تربيتهم على قيمٍ أصبحت (خارج الخدمة)، وعدم إدراكهم أنَّ أطفالهم ولدوا في زمن الانترنت
والموبايل.
وللإمام علي (ع) مقولة سبق بها علماء التربية وعلم النفس: (لا تربوا أبناءكم كما رباكم آباؤكم فإنَّهم خلقوا لزمانٍ غير زمانكم).
ولا يعني هذا أنْ نتخلى عن قيمنا الأصيلة، بل أنْ نأخذ منها ما ينسجم والقيم الإيجابيَّة التي فرضها عصر التواصل الاجتماعي، وأنْ يرتقوا بذائقتهم عن (المحتوى الهابط) الذي شاع
مؤخراً.
إنَّ الجحود والعقوق، أيها السادة، يشكلان متلازمة في علاقة تبادليَّة تؤدي الى نتائج كارثيَّة.. فهل أدركنا الآن ما كنّا عنه
غافلين؟