بين المبدع والمتلقي

ثقافة 2019/04/12
...

محمود قندي
العلاقة بين المبدع والمتلقي تحتاج إلى فضِّ الاشتباك بينهما، وإماطة اللثام عن وجهيهما بُغية تصحيح المفاهيم واستجلاء المعنى، فإذا قصدنا بالمبدع – هنا – أنه كاتب النصوص الأدبية (رواية – قصة - شعر) بعيدًا عن باقي الفنون التي لها مكانتها الرفيعة، فإننا بصدد معرفة كَنْه المتلقي كمتذوق لهذه الأجناس المختلفة، فما هو طوره العمري؟، ومن أي طبقة؟، ومدى ثقافته واتساع رؤيته وقدرته على فهم النص وتحليله والاستمتاع به، الأمر الذي قد يجعل المبدع في حيرة من أمره متسائلًا لمن أكتب؟ وهو سؤال – بتقديرنا – يجانبه الصواب، ولا يجب طرحه، ذلك أن الكاتب حريٌّ به أن يعبر عن اخفاقات مجتمعه وقضايا وطنه بطرائق فنية ولغة متميزة، وهو في تعبيره يتكئ على إنسانية الإنسان في مواجهته للأحداث الضارية ومجابهته لها، ليحقق ذاته عبر استشراف ومضات أمل تلوح
 له في الأفق.
لذلك لا ينبغي للمبدع أن يشغل نفسه بالقارئ كثيرًا، سواء كان القارئ أنموذجيًا أو ضمنيًا أو حقيقيًا، ولا تعنينا مثل هذه التصنيفات وغيرها، فانشغال المؤلف بالمتلقي من شأنه أن يوقعه في فخاخ التبسيط والتسطيح بحُجة وصوله إلى أكبر 
جمع من القراء.
وقد فعل ذلك البعض وسقط في هوة التقرير والمباشرة ومعالجة القضايا عبر الإبداع بسذاجة نالت من مكانتهم كأدباء
 وأمكنة حرفهم.
ليس معنى ذلك أن يتخذ المبدع الغموض منهجًا، أو يستدعي الألفاظ المعجمية المقعرة إلى عالم نصوصه، فكم من كتَّاب لا يُحصى عددهم صاغوا رؤاهم بكلمات سهلة سلسة وظل لكتاباتهم عمقها المؤثر كنجيب محفوظ ويوسف إدريس في مصر، ونزار عبدالستار وعلى لفته سعيد في العراق، وحنا مينا وحيدر حيدر في سوريا، وغسان كنفاني في فلسطين، وواسيني الأعرج في 
الجزائر.
وفي الشعر برز محمود درويش وسميح القاسم وصلاح عبدالصبور ونازك الملائكة وعبدالوهاب البياتي وبدر شاكر السيّاب وغيرهم، ومع ذلك انتشروا وصار لهم جمهورهم الكبير في سماء الذائقة العربية.
فكل هؤلاء اتسموا باللغة المفعمة بالصورة والبلاغة الحداثية والتناول العميق فاستحقوا اهتمام متذوقي الأدب بهم، فالإبداع الفني الحقيقي هو الذي يصنع مريديه وليس التسطيح والاستسهلال والنزول إلى مستويات التدني كما قد يزعم
 البعض.
وليس تعاليًا من المبدع الجاد إذا اعتنق فكرة أن من يريد أن يقرأ إبداعًا جادًا عليه أن يسعى إلى محاولة فهمه وفك شفراته إن وُجِدَت، ولا يغيب عنا دور الناقد الذي هو في الأساس كاشف لدجى بعض النصوص ومفسّر لمواضعها، وفاتح الطرق أمام الذائقة العاشقة للإبداع كي يساعدها على فهم ما غلق وما أُبْهِم وما استعسر.
وليس معنى ذلك أن ما يذهب إليه الناقد من تحديد لأطر النص مُلزِم للمتلقي، فالنصوص – عامة – فضاؤها متسع لتعددية التأويل التي من شأنها إثراء النصوص، فقد يصيغ المؤلف 
ذاته ـ
 بوعي أو غير وعي ـ وقد يستلهم التراث، ويستدعي الأسطورة، ويستعين بالرمز، وأذكر في أحد اللقاءات مع عملاق الرواية العربية نجيب محفوظ أن أحد الأصدقاء مال عليه هامسًا بأن شخصية “حميدة” في رواية “زقاق المدق” هي رمز للوطن، فأومأ برأسه موافقًا، وحين همس إليه آخر بأن “حميدة” هي رمز للطبقة الكادحة وافقه أيضًا، ومحفوظ في ذلك وتلك مُحقًا، فلا يجوز للكاتب إخراج أعماله من رحابة التجريد والدفع بها إلى رحم التحديد بتفسيرها وشرحها لأي 
متذوق.
وهنا نضيف: إن القارئ – في كثير من الأحوال – يرى ذاته أو جزءًا منها في صلب النص، أو يبصر جانبًا من واقعه المعيش، وأكثر من ذلك أنه قد يرى في أحد الأبطال نفسه وكأنه أمام مرآة تعكس حقيقة ذاته ومشاعره وأحاسيسه
 وتناقضاته.
ومن حق ـ هذا القارئ ـ أن يشجب موقفًا ما، أو يدين سلوكا معينا بساحة الأحداث السردية أو عبر السطور الشعرية، في حين أن نفس المواقف والأحداث التي شجبها قد يؤيّدها غيره.
إنّ سماء النصوص منفتحة – دومًا – وقابلة للتعددية، واختلاف التفاسير، وتباين مستويات التلقي من قارئ إلى آخر.
ولا بدّ للمبدع – في هذا الإطار – أن يضع في اعتباره أن اللفظ يُحيل إلى صورة والصورة تشد المتذوق إلى تتبع مَبْغَى الكاتب وتُقَرِّب إلى ذهنه رؤى الإبداع وهدفه.
إن العلاقة بين المبدع والمتلقي جديرة بأن تقوم على الاحترام المتبادل، فالكاتب يقدم بأمانة فنية حقائق قد تبدو غائبة، ويحثه على اتخاذ موقف تجاه الانكسارات والانتكاسات أيًّا كان 
نوعها.
والمتلقي عليه أن يتفهم طبيعة الإبداع وأطوار تطوره، وأنه كائن حي لا يثبت على حال ولا يتشبث بشيء، وأن ما يظنه قاعدة قد أضحت مألوفة عند البعض يمكن كسرها وتجاوزها عند البعض الآخر.
الإبداع – في نهاية المطاف – كائن حي يشبّ ويكبر لكنه – أبدًا – لا يهرم ولا يموت.
والمتلقي باقٍ ما بقيَ الحرف الراقي يغرّد في سماء الإبداع وآفاق الثقافة.