هيأ الباحث فالح مهدي عدته التحليلية ومراجعه المتعددة عن ظاهرة العنف في كتابه الجديد “مقالة في السفالة – نقد الحاضر العراقي-” على نحو تسعى الى النضج والتكامل في الوقت الذي تتمخض وتكشف فيه عن نتائج بحثية جديدة هي الاخرى في سعي الى الدقة والوضوح. لهذا يمكن تحديد اطارها المنهجي في عدد من النقاط الآتية:
1 -عرض قراءات متفرقة لجذور العنف في التاريخ والإنسان وكما تنظر إليه بعض الفلسفات والأديان أو في انعكاساتها داخل جغرافيا المدينة وبنى السلطة.
2 - ايراد موجزات لابرز ما توصل اليه الباحثون العراقيون والأجانب بهذا الشأن.
3 - الانتهاء الى الايحاء بفكرة البرية والافتراس في ما سمّاه “العراق المعلول”.
4 - “التلويح منهجيا” بان القسوة العراقية ليست تحصيلا وتراكما لسلوك افرادها فقط، بل هي عوامل موضوعية متضافرة تصنع الظاهرة بحيث يعدو افرادها جزءا منها سواء كانوا مجرمين أو ضحايا، للمجرم والضحية صانع واحد مشترك ولكنه ليس قدرا ابديا ملازما
لثقافتنا.
واقصد بكلمة التلويح منهجيا هنا، بدء انطلاق تشييد فالح مهدي لمشروعه الجديد عن القسوة العراقية متمثلا بما سمّاه المقاربة والمقارنة المفضية الى نتائج البحث في هذا الكتاب – النقطة الرابعة المذكورة آنفا - ولكن هذه النتائج البحثية الجديدة حقا، تحتاج – كما أرى - الى المزيد من الوصف التحليلي والإفاضة اللغوية بين ما يستند إليه من مراجع وبين ما يتوصل فيه من مقاربات الكشف عن آليات الزمر المتوحشة للقتل طوال العقود الماضية وطبيعة صراعها الثابت مع ضحاياها في حلبة محددة الاتجاه والزوايا ومتعددة الابعاد والآفاق عبر سلسلة من الاسباب الدينية والعرقية والجغرافية المتشابكة التي تنشد توصيفا دقيقا لقاع الانحطاطية العراقية ومحاولة استكناه مفهومه الموضوعي بغية ايقافه وعزله في الجغرافية المصّدرة للعنف والاستعدادات الذاتية لارتكابه في المجتمع كله، فهذا القاع ليس من صنعنا وعلينا اختراع ردمه بالتدريج
والقضاء عليه.
تلك محاولة فالح مهدي التي يستلهم طاقتها الكتابية العميقة من نماذج ابداعية عالمية، احدثت فرقا في زمنها وتمكّنت من تغيير الواقع كونها جمعت مصادر العنف الانساني المترامية في التاريخ والفعالية البشرية وانتزعت علائقه من ذات الاجيال المتلاحقة مثل مذكرات من قبو مظلم لديستوفسكي الذي أنشأ يلملم قاع الوضاعة في كاتب المذكرات الوهمي ويظهرها لتنجلي على السطح الساطع وعمل اوزبورن حين تستحيل نظرة الغضب الى لازمة جيلية لأفول
الامبراطوريات.
أرى عبر النقاط الاربع الآنفة، الشديدة الايجاز ان الباحث فالح مهدي قد افتتح مشروعه الفكري الاثنوغرافي في دراسة ظاهرة العنف في المنطقة بين المجتمع والسلطة من خلال فكرة “العراق المعلول” المتضمنة اسبابا وعوامل لم يتم التركيز عليها سابقا كما يقول الباحث وهي حقا كذلك لكن تبويب الاسباب والعوامل، جاء على الطريقة التي تجعل عملية التركيز الجديد عليها لا تخلو من تشتيت وعدم انتظام ومن ثم مواربة للفكرة التي تتجه نحوها حيث ان المقاربة والمقارنة عند محصلة النتائج لم تتخذ موقعها المركزي في محيط المصادر المتعددة بالرغم من ان الباحث حددها وبوّبها في مقدمة الكتاب وشرحها في المتن الا انها لا تتوج باستنتاج منهجي دقيق بمستوى الطاقة الكامنة في مقارباته – في الأقل اسلوبيا-، على سبيل المثال فإن عامل البدونة والصحراء الغربية وموجتها على المدينة أو شبه المدينة صانعة للقسوة العراقية في السلطة إبان الستينيات، هذا الطرح لم يكن جديدا لدى طروحات الباحثين العراقيين غير ان الجديد هو عملية التركيز في مجال الباحث فالح مهدي وهي برأيي مقدمة اولية لدراسة ظاهرة العنف السلطوي من خلال عواملها الموضوعية والتاريخية والبيئية التي تجعل جميع شخوصها جزءا منها بوصفهم موجات بدوية على الحواضر في سياق صدمة التحديث وما نجمت عنه من حيثيات وتشكل وتصاعد داخل الموجات سواء أكانوا مجرمين ام ضحايا عبر وصف الباحث في موجات العثمنة والبعثنة وغير ذلك كثير.
أكان الباحث فالح مهدي ليوحي باطياف ضحايا مثلما يرتكز الى مرائي مجرمين؟
بوسع مجرم إبادة مدان بقتل مايربو على المليون انسان أن ينسب الاعمال القذرة الى جيوش من الآخرين المساندين له والمطيعين لأوامره بالرغم من ان ذلك لا يبرؤه ابدا من اجرامه ولكنه يستطيع ان يشرك كيانات من المجتمع في الولوغ بالجريمة أيضا، ووحده لن يتأتى له ان يوقع الموت في اعداد هائلة من البشر، وهكذا فإن المفترس الذي يشير اليه الباحث والمقتبس من علم النفس لايجد فريسته الحقيقية او الرمزية ما لم يتعدد الى استجابة كيانات من المجتمع، تأخذ دوره الحقيقي فضلا عن دورها اصلا في مسرحة انثروبولوجية متكاملة مع بعضها؛ لذا تنتقل صفات المفترس الى تلك الادوار التنفيذية مثل من يعمل على تعدين معادن خسيسة اصلا لجعلها اكثر خسة.
وعلى هذا النسق فإن الشخصية السايكوباثية التي درسها الباحث لا تعدو مشكلة الفرد في ظاهرة العنف حسب انما السايكوباثية المجتمعية المساندة ولولا الاستعدادات الذاتية لجيوش المرتكبين للاجرام لم يتمكّن المفترس من الظهور
والانوجاد.
من جانب آخر، بلغت جرأة الباحث فالح مهدي حدا بعيدا في سياق الكامن من عدته التحليلية، أي عند إيراد معلومة عن نماذج وكتابات او الهجوم على بعض القوى السياسية اليسارية والاسلامية في الشارع العراقي التي تقف على الضد والصراع مع قوى أخرى شكّلت ظاهرة العنف في موجات العثمنة والبعثنة والتي أفضى استقطابها الكبير عبر الحقب الى اندماج العنف السلطوي والمجتمعي الآن في خلطة ايحائية تجعل الجميع في استعاضة عن بعضهم وفي المحصلة فإنّ مسمّى الضحايا أحيانا من نسيج المجرمين والعكس صحيح.
هل أوحى الكاتب بذلك؟
نعم في تقديري.
كانت عملية التركيز على مفهوم السفالة العراقية مخبأة في عدة الكاتب التحليلية – نقد الحاضر العراقي- اكثر من ان يستقر أسلوبيا في بيان محدد ولو استغرق الكاتب بحثه عن القاع العراقي عبر فكرة البرية والافتراس أي الصحراء الغربية والبداوة والجمع بين العوامل الموضوعية والذاتية المشتركة في انتاج العنف عبر صدمة التحديث والجيوش المساندة لتنفيذ الاوامر – أقول- لو استغرق ذلك ليبدأ رحلته حتما في استكمال الكشف عن نوع الضحايا بالقدر الذي ندرك فيه شكل المجرمين.
إنني أعتقد بأن عدة الباحث فالح مهدي المذهلة لم تأتِ بكامل طاقتها الوصفية الكامنة عن الجحيم العراقي، وربما هي دراسة اولية في مشروع الكاتب الاثنوغرافي تسعى في النهاية لتبيان موقع الضحية العراقي وردم القاع.