أيديولوجيا التفسير الذاتي في مسرحيَّة (نعم غودو)

ثقافة 2023/03/02
...

  نهضة طه الكرطاني


براعة العمل الإبداعي وخصوصاً المسرحي، تكمن فيما يتركه في المتلقي من أثر، بعد أن يغادر هذا المتلقي، مدرجات المسرح منطلقاً إلى محاكمة العمل وإطلاق الأحكام عليه سلباً وإيجاباً، أما إذا تعددت بوصلات التلقي وفك شيفراته فهذا رصيد آخر يضاف لحساب (التقانة الاشتغالية) في تمكن مخرج النص وكاتبه ومؤديه في التعامل مع أدوات النص وقدرة الإيصال والتوصيل. 


وإذا كانت النهايات المفتوحة في النصوص الأدبيّة تجد لها عالمها الذي يتركّب في ذهن القارئ المتوحّد في قراءته للنص حتى وإن شاركه الآخرون القراءة بشكلٍ منفرد لذات النص ويبقى كل قارئ هو حر في تخيل النهاية التي تتواءم مع رؤاه ومزاجه الخاص بل وحتى آماله وتداعياته النفسيَّة. فإنَّ العمل المسرحي يتشارك فيه الرائي أو المشاهد متعة المشاهدة أو الاستكشاف مع غيره من مشاهدين يسهمون في تبادل وجهات النظر وإطلاق الأحكام على العمل حال انتهائه فيكون من أسرار نجاح القائمين على العمل ابتداءً بكاتب السيناريو والمخرج ومروراً بإسقاطات الضوء واختيار الموسيقى المصاحبة وانتهاءً بالممثلين. وقد يكون لإخفاق أحد هذه العناصر وقعها المميت على العمل والعكس أيضاً. 

أسوق هذه المقدمة البسيطة مدخلاً لمشاهدتي للعمل المسرحي (يس غودو) لمخرجه أنس عبد الصمد الذي اشترك مع أعضاء فرقة مسرح المستحيل الفنان محمد عمر وصادق الزيدي في تأدية شخصياته. معالجاً فيه برؤيا عراقية مسرحية (في انتظار غودو) لكاتبها صموئيل بيكيت مستدعياً رموز بيكيت الثائرة والغاضبة. لكن مسرح أحداثها هي بغداد التي كانت الأرض الحرام للشخصيات التي عانت ما عانت من ويلات الحرب فكان العنف هو السمة السائدة في عمل المخرج وصرخات الممثلين التي تحبس أنفاس الرائي المشاهد. 

وقد أتيح لي أن أشاهد العمل لمرتين بمحض المصادفة. وفي مكانين منفصلين، الأولى في فضائه الطبيعي على خشبة مسرح الرشيد حيث الفضاء الواسع الرحب والجمهور المتخصص والذي جاء بقصديّة الحكم على الأعمال المسرحية في مهرجان مسرحي تتنافس فيه الأعمال الجادة. والمشاهدة الثانية في قاعة المعهد الفرنسي الثقافي حيث الفضاء المحدود والجمهور الذي جاء لإمتاع نفسه والمشاركة في حضور إحدى الأماسي الثقافيّة التي يقيمها المعهد بشكلٍ متواصل. 

في الحالتين اللتين هُيّئ لي أن أحضرهما كنت أمام عمل استطاع أن يحبس أنفاس جمهوره طوال دقائق العرض ويهيمن الممثلون على الجو بشكلٍ لم يدع فرصة لأيِّ بادرة للشرود أو الانزياح الذهني للمشاهدين الذين كانوا يترقبون (الما بعد)، رغم البداية الرتيبة للعرض التي ربما تعطي انطباعا بأنَّ العمل قائم على الغرابة بتكتكات ساعة أو منبه يخز المسامع وربما يستثير أعصاب الجالسين. 

في المرتين استطاع العمل أن يثير في جمهوره دوامة من الأسئلة المتواترة والافتراضات المتعددة فلغة التعبير الجسدي، فضلاً عن سينوغرافيا العرض من تصميم وتنفيذ عناصر مشهديّة وملابس الممثلين وأزيائهم كلها عوامل أزاحت الحاجة إلى لغة الكلام مفضية المكان للغة الإيماءة متضافرة مع حدة أداء الممثلين وتمكنهم من الحركات الجسديّة بكل عنفها وتوحّشها والتي جعلت من خشبة المسرح ساحة لزوايا وأماكن عديدة في ذات المشهد الطوبوغرافي. ولهذا استحق العمل الفوز بجائزة الإخراج المسرحي وجائزة أفضل عرض مسرحي، في الدورة الأولى لمهرجان العراق الوطني للمسرح (دورة سامي

عبد الحميد). 

فقد استطاع المخرج أن يختزل كل أحداث المرحلة وتجارب الناس ومعاناتهم ويصور أكبر قدر من الحيوات المتألمة والمتمرّدة في ذات الوقت.. فترك للمشاهد أن يتصور أنه يشاهد حياة وقائع أيّام رتيبة يعيشها مساجين أو جنود لا فرق... لأنّ حاضرهم الآني لا يكاد يختلف بشيء عن أمسهم وهكذا هو حال غدهم، وهم يتصورون أنهم وحدهم من يعيش هذه المأساة بينما ينوء تحت ثقلها شعب بأكمله صار تحت سطوة تقلّبات الأحداث المتسارعة التي تقلب حياة الناس رأساً على عقب. تلك الحياة التي كانت تجري بوتيرة واحدة رغم الألم والمعاناة معلنة عن ثورة الإنسان إذا ما وصل حد الانسلاخ من آدميته. واستمر طرق الكلمات التي حلت غريبة على مسامع العراقيين لتفرض واقعاً لا مناصَ منه ولا

مهربا.  

كانت رمزيّة التشبّث واستدعاء بيكيت في كل الصور والأماكن هو المشهد الذي ضجت به نهاية العمل الذي ترك مفتوحاً لتفسيرات المشاهدين وطبيعة تلقيهم لكل شيفراته مؤكداً فكرة أنّ الإبداع لا يحتاج إلى لغة تكون وعاءً يحويه عندما يقدم إلى متلقيه المتذوق من دون إطلاق الأحكام المسبقة أو التوجه برؤى ضيقة متحيّزة في النظر إلى العمل أيا

 كان.