الزلزال

ثقافة 2023/03/02
...

  ريم حبيب 


أشعر بثقل غامض على صدري، هذه ليست أفكاراً، هذه ليست أحاسيسَ.. إنه سقف بيتي. عيناي تغيمان كثيراً، وأنا أتذكر كيف ماجت بنا الأرض ثم انقلب البناء الذي نسكنه. لم يكن انفجاراً، لم يكن قذيفة، ولا مدفعاً كان زلزالا. لكن يا له من خوف، ليس خوفاً. أحسست أني مت.. لكنني مازلت حية، مازلت أنبض… جسدي متيبّس وكأنه قطع إلى قطعتين، المكان مظلم. أبحث عن ابنتي لا أجدها قربي..


 لا أعرف أين اختبأت في أية زاوية؟ حتى هذه الساعة لم أستوعب ما حدث، لم أستوعب بعد لِمَ لَمْ أمتْ؟ أحاول أن أصرخ، أن أنادي ابنتي لا أستطيع. فمي ناشف كسماءٍ مُشقّقةٍ. هناك ضربات أزميل أو مجرفة فوقي، استسلمت وكأنّي حجر يُعاد تشكيله من جديد، أرهقني الصراخ الذي يصلني من الخارج، أنا بين الركام، أخمن أنّني في المكتبة، أحبُّ هذا الركن من البيت، بعد أن صرت أقرأ كثيراً، بعد أن صار زوجي يغيب كثيراً، هذه المكتبة ورثها عن والدته التي كانت تعمل في مكتبة عموميّة. كنت أشعر بالراحة وأنا أقرأ، هنا في هذا الركن فوق الكرسي الهزاز لا أشعر بالخوف، الخوف الذي بدأ يتسرّب إليّ، إلى البيت، إلى نايا طفلتي الصغيرة التي لم تتجاوزْ خمسَ السنوات… ومنذ أن بدأ رامي لا يكلمني، متجنباً النظر إليّ، يعيش معنا ونأكل معاً، لكن لا أعرف بماذا يفكّرُ… لهذا كنت أخاف الصمت في العلاقات الزوجيّةِ، الصمت يدفعنا إلى الخوف. كنت أغرق في كتاب أقرؤه ورامي غارق في عمله من دون أن يتنبهَ إلى أنّنا لم نتبادلْ كلمة واحدة لأيّامٍ عدّة لم يكن يحدث ذلك سابقاً لكن الآن يحدث. أينما ذهبت برفقة نايا في الطرقات، في الحديقة، في زيارات للأهل والأصدقاء، أدرك كم باتت الحياة مستحيلة بيننا بلا كلام، فتجتاحني الرغبة لأتصل به، أتناول هاتفي النقال وأطلبه لنتكلّم قليلاً لكنه يعتذر لأنَّ لديه اجتماعا. أتناول كتاباً من حقيبتي وأبدأ بالقراءة، في الحديقة لا أخاف، أنظر إلى نايا وهي تلعب مع الأطفال فأبتسم لها لتطمئن. حاولت أن أفهم سرَّ ذلك الصمت الذي بدا ثقيلاً بيننا، على جدران بيتنا، من السبب؟ أفكر مجدداً هل أنا من أوصل الأمور بيننا إلى هذا الحد؟ أشعر أن روحي تكاد تنفصل عن جسدي، أقرر أن أعيد الحياة بيننا كما كانت في السابق متدفقة، عذبة، رقيقة. رامي يعرف كم أحبّه، لا حاجة بي لأن أقول له ذلك، فنحن نتشارك معاً كل لحظات حياتنا، المشاركة الكاملة تتطلّب الكثير حتماً، تتطلّب أن أعذره وسط زحمة الحياة، وقسوتها والمشاغل الملحة والمشكلات المتلاحقة ولقمة العيش، كل هذا يدفعني لأن أبادر وأقول له كم أحبه وعن الساعات الطويلة التي أمضيها وأنا أفكر فيه وبطفلتنا. أعرف أنني غير رومانتيكية إطلاقاً لكن اليوم سأحاول… أعيد الكتاب إلى الحقيبة، أمسك بيد نايا، أوقف سيارة أجرة وأطلب من السائق أن يقلّني إلى السوق، أتدفق بحيوية وأنا أخبر نايا بأنّنا سنشتري قالباً كبيراً من الحلوى لنحتفلَ مساءً. تسألني عن المناسبة، ارتبك قليلاً، ثم أنظر إلى السماء فأرى نجوماً اصطفت على نسق واحد صوب القمر الذي يبرق وميضه ثقيلاً كالفضة، فأشير لها نحو القمر والنجوم فتندهش بالمنظر. أتناول هاتفي النقال وأبعث رسالة صوتية لرامي، أطلب منه أن لا يتأخر هذه الليلة فنحن في انتظاره، سمعت طنيناً في أذني فتنبهت للسائق الذي يشتم سيارة سوداء كانت تقف بجانبه على الإشارة الضوئية، بدا صاحبها مستعجلاً ليمضي، التفت إلى السيارة فأجد رامي وبجانبه امرأة. التقت نظراتنا معاً أنا وهو، لم أفكر بالمرأة، فكرت بنفسي، بابنتي… قلت الرجال دائماً يُخطفون من قبل نساء مارقات، أعرف الكثير من رجال خُطفوا ثم عادوا، زوج شقيقتي، أبي. من أين جاءتني هذه الطريقة في التفكير لا أعرف. أرجع إلى البيت، أجد رامي في انتظاري أنظر من النافذة فأرى غيوماً تسبح في سماء الليل، أفكر في الرضة العاطفية التي تعرضت لها اليوم وآلمتني، أضع يدي على قلبي وأتحسس ألمه وأفكر في الحياة، أنظر إلى رامي الذي كان يحاول أن يرمم الصدع بيننا بنظرات ندم، يطلب منّي أن أتكلّم، أريد أن أتكلّم، أشتاق إليه، كنت أحب الكلام معه، أذكر قعودنا في كافتيريا الجامعة، على شرفة بيتنا، أذكر نزهاتنا، أذكر يوم زفافنا، أذكر ضحكاتنا حين كان يتبعني من غرفة إلى غرفة أول زواجنا لكنني أغرق في الصمت، أغرق في الصوفا، كأنّني لم أعد أشعر بقلبي، تحولت إلى جماد… ما قبل تلك الرضة العاطفيّة غير ما بعدها… عيناي كانتا أشبه بشاشتين لا تنفكان تستيعدان صورة تلك المرأة.

عند الساعة الرابعة فجراً أقرر أن أتكلّم، أنظر إلى رامي وأطلب منه الطلاق فترن كلمة طلقني في البيت مثل جرس المنبه. فجأة تستيقظ نايا مذعورة، تستيقظ كل المدينة، تأتي أصوات المدينة وهي تنهض من النوم وكأنّها تفر من الموت، طرقات، أبواب، نوافذ، صراخ أطفال ونساء، الناس خرجوا إلى الشوارع، أبواق سيارات الإسعاف انطلقت، رائحة الباطون تفوح، رائحة الموت تفوح، رامي ينادي عليَّ، ينادي على نايا، يسرع إليَّ، يسرع إلى

نايا.