قصيدة النثر في أروقة الجامعة

ثقافة 2023/03/02
...

 طالب عبد العزيز 


  كلُّ بداية مغلقة، وكل حديث شخصيٍّ عاجز ولا يؤتمن. ماذا ترانا قائلين، بعد دورةِ الأفلاك، وعصفِ السنين، وتراجعِ الآمال، وما حفنة الساعات الأخيرة التي تتكرّم الآلهة أو الطبيعة بها علينا بقيمة ما أنفقناه من الخسارات، وانتهينا إليه في مسيرة الوجود والعدم الكبرى..  فتمسك أيَّها الشاعرُ بالقلب الذي أسلمك للحبِّ والدعة ونسائم الفجر الأولى، وكن المسافة الأكيدة بين المطر وعدمِه، بين الحقيقة والهروب منها، واكتب الأملَ الذي يعجز النهارُ عن انتظاره، ويتراجع الليل على وسائده، وتشح الى جواره القصائد والأغنيات، ولتكن حفيدتك زهرةَ جلّنار واحدة، لتكن مسراتك ما لا تحصيه من الشرفات، لأنك، وحدك القادرُ على تدوين ما لم تقله أباريق العطر للنساء، وتبدد في أفئدة المرايا، وحدك من سيسمي الضوء أسيجة للتائهين.

 

بهذه السطورُ تقدمتُ للحديث عن تجربتي في الشعر وختمتها بقراءة بعض القصائد، التي أتاحها الوقت، في الأصبوحة التي أقامها مركز دراسات الخليج العربي والبصرة قبل ثلاثة أيام، ولأنّني بحاجة إلى تسليط بعض الضوء على التجربة تلك، مستفيداً من الآراء التي طرحت من قبل الأساتذة والأصدقاء، قبل ختام الجلسة، الآراء التي تتباين بطبيعتها، أو تتقاطع أحياناً، على خريطة الرفض والقبول، فالشعر قديمه وحديثه وأشكاله قضيةٌ ما تزال تثير الجدل، حيثما اِنعقد مجلسٌ له، وأتيحت للجالسين فرصة الحديث عنه، أما إذا كان المكانُ قاعةً من قاعات الحرم الجامعي، وعلى مرمى حجر من كلية الآداب، حيث يكون الأساتذة المختصون وطلاب اللغة والأدب والنقد.. فسيكون للحديث طعم ومعنى آخران، كيف لا ونحن في المختبر العملي وعند ينبوع الحكمة والضوء!. 

 كنتُ سعيداً بإنصات من وجد في كلمتي وقصائدي قيمة شعرية ما، وتعجلتْ كلماتُ الثناء طريقها إلى قلبي، إذْ لم أكُ مستغنٍ عن ذلك أبداً، فأنا مجبول على مصافحة الأيدي التي تُسلِمني إلى منابت الورد، وأشهدُ الله أنه كان مبذولاً في كلماتهم، وصَيْباً كريماً على تربة روحي.. وإذْ أكون مضطراً إلى مغادرة هذا للحديث عن الشعر وجوهرة فلن أحيد عن رأيي المناصر والنهائي لقصيدة النثر، لا بوصفها شكلاً سائلاً وطارئاً، كما وصفها أحدُ الاساتذة، إنما بوصفها خلاصةً إلى ما انتهى إليه الشكل الشعري، فضلاً عن كونها الوعاء الأوسعَ، والأكثر قدرةً على احتضان الشعر بلغتنا العربية، ولغات العالم الأخرى، فهي شكلٌ يؤول اليه كلُّ فنٍ يملك الديناميكية وينشد الخلود، وقبل ذلك هي طبيعة في النفس، ونتيجة حتمية للتطور، الذي لا تستثنى الثقافةُ منه، ومن يتعقّب شعرنا العربيّ سيجدُ أنَّ معظم ما يكتب فيه إنما يعتمد قصيدة النثر شكلاً ومحتوىً، في مفارقة للشكل التقليدي، واستبعاد لعروض الخليل، جرياً وراء هارموني العصر، وتحولاته السريعة، حيث يضيق القديم بنشيد التجديد.  

 لا أجدُ عبقرية في القول بأنَّ صراع القديم والجديد جوهرٌ وسمةٌ في التحولات، بعيداً عن منطق الاقصاء والنبذ، فلا وجود لثقافة قديمة على حساب أخرى جديدة، لكنَّ منهجيةً ما يتوجب عليها ضبط إيقاع الأمرين في زمن واحد، شريطة القبول بنموِّ برعم التجديد في أصل الشجر القديم، ولا أعتقدُ بانَّ السياب وجيل الرواد اغفلوا ذلك، لكنهم وجدوا في التحوّل قيمةً ثقافية، وسبيلاً سالكاً وضعت المجتمعات عليه، وتوجب عليهم السير واللحاق به. وما قضية التأثر بالشعر الانجليزي، وإديث ستويل عند السياب بخاصة إلا الوعي والنضج، إذا لم يكن الاستشرافُ واليقين. لا يجب أنْ ننظر الى أثرنا الشعري القديم بحول فكري، أبداً، إنما بوعي الشاعر في التجديد، وقدرته في التساوق والبقاء، فثقافتنا اليوم صنيعةُ ونتيجةُ قيم الجمال العليا فيه، إلا أنَّ آلة التحديث تجري ولا مستقر لأفلاكها، إذْ كلُّ توقفٍ مقدّسٍ على القديم هلاكٌ فيه. كنتُ ذات يوم قد فزعتُ مع من فزع مرعوباً، من قول أحد المفكرين الاسلاميين، أظنّه تونسيّ، جرى في حديثه له عن الإرهاب، بعد أحداث 11 سبتمبر، حين قال: «علينا أنْ نحتفظ وبتقديس عالٍ بآيات القتل والتشديد الواردة بالمصحف، في أرفف عالية، بعيداً عن التداول في مفردات حياتنا إنْ أردنا العيش بسلام مع العالم».

  أحدُ الأساتذة قال بمخاوفه على الشعر العربيِّ من قصيدة النثر! وهو أمرٌ غريبٌ. لماذا الخوف هذا؟ ليس أثرنا في الشعر او السرد على الهشاشة هذه، هو بناءٌ تراتب وتوالى في التجديد، ترى كيف ننظر الى أبي تمام وأبي نواس وبشار بن برد وإلى الاندلسيين وإلى الشعراء أصحاب المشجرات والذين نظموا في التثليث، والتربيع، والتخميس، والتدوير.. أنا لا أدعو إلى إيداع الاثر الشعري القديم في أرفف عالية، أو مقدسة حتى، لأنَّ كلَّ جديد سيصبح قديماً لا محالة، وهذه سنّة التحديث والتطور، ومثلما لا أعتقد بأنَّ المُهَلْهِلُ التَّغْلِبِي، خال امرؤ القيس كان أولَ من هلهل نسج الشعر أيْ (رقَّقه) بمعنى حدَّثه، كما يؤرَخُ للتحديث في شعرنا وأدبنا العربي، إنما هناك سلسلة مهلهلين، فلا تجديد دونما أصل قديم يصدرُ عنه، وإذا كانت قصيدة النثر تجديداً في الشعر وطارئاً عليه فسيأتي الدهرُ عليها ذات يوم، وتكون معماراً كلاسيكياً، لا يصحُّ الاحتفاظ ببذرة خلوده الى ما لا نهاية، ألم يقل الزهاوي الفيلسوف: كلُّ شيءٍ الى التجددِ ماضٍ فلماذا يُقرُّ هذا القديم؟.

 سيبلغ حديثُنا غايته لو أنَّ جلستنا كانت خارج القاعة. و»لأتسعت كثيراً لو أنَّ عدداً من الطلبة والطالبات اهتم باجتياز بوابة المركز والعبور إلى قاعته الأم، مدفوعا بإغراء الانصات.. « بهذه الكلمات نثر الشاعر والفنان هاشم تايه مسك ختام الأصبوحة، متطلعاً لحضور الجيل الجديد من الطلبة جانباً من فعاليات الثقافة، لأنَّهم عصب الوعي الجديد، وغايته التي ننشدُها معاً، ورهاننا على مضمار القبول

والرفض.