طفلة سندريلا

ثقافة 2023/03/02
...

 جينا سلطان


تقدم المؤلفة الأمريكية «دايان ساترفيلد» لروايتها «الحكاية الثالثة عشرة» بعبارة تشير إلى العقليّة الطفوليّة داخل كل إنسان، والمسؤولة عن تجميل الواقع ومنحه أبعاداً أسطورية، تخلق بطل الحكاية التي تصلح للتداول وللتفاخر: «ينسج الأطفال أساطير عن مولدهم. إنه فعل شائع. فإذا أردت الاطلاع على قلب وروح وعقل أحد أسأله عن مولده. ما سيقوله لن يكون الحقيقة بل قصة، ولا شيء أكثر تعبيرا عن البشر من القصص». لكن تلك القصص ستصطدم لاحقاً بإدراك هؤلاء الخياليين، وبعد فوات الأوان.


 لـ «الثمن الذي يجب أن يدفعوه لأنّهم تجنبوا أقدارهم»، على غرار ما أطرته حكاية الزن الشهيرة «طائر الكركي الرمادية»، التي ارتدت بطلتها قميص أميرات البلاط، ثم تقمّصت لاحقا بثوب طائر الكركي لتتم قدرها، فغدت أسطورتها رمزاً لتداعيات دولاب الكارما في الذات اليابانية. لذلك تصبح عبارة «عاشوا بسعادة للأبد» والخاصة بقصة عروس البحر ملوثة، ومصير آرييل العاشقة الذي تراءى في البداية قابلا جدا للتغيير، ومتاحا جدا للتفاوض، كما ذهبت ساترفيلد، ينتهي بفرض انتقام قاس لأجل السعادة.. 

   يُعتقد في بعض الثقافات أن الاسم يحتوي على كل قوى الشخص الروحانيَّة، وأن الاسم يجب أن يكون معروفا للرب، ولحامله، وللقليل جدا من المحظوظين. فنطق مثل هذا الاسم سواء بلسان صاحبه، أو أحد آخر يمثل دعوة للخطر. وقد بدا أن ذلك ينطبق على اسم إيميلاين، أحد التوأمين اللتين تدور حولهما الحكاية المُسقطة عمداً من كتاب نشر لأول مرة تحت عنوان «الحكاية الثالثة عشرة». ثم سحبت نسخة ومنعت من التداول، ليعاد نشرها تحت اسم حكايات التغيير واليأس، والمحكومة بالتوقف عند الخاتمة الحزينة لقصة عروس البحر. لتتحول قصة الإنسانيّة المُجهضة إلى رمز غامض يستحث مخيلة القرّاء على تقصي الحقيقة المتوارية خلف الشخصية المستعارة للمؤلفة فيدا وينتر، المشهورة بأسرارها، مثلما هي مشهورة بقصصها.

    وتحت غواية «البداية» تبذر ساترفيلد بذور الشك في قدرة الحقيقة على إذكاء شعلة النص الإبداعي المعاصر، قياساً بما يقدمه الكذب من عون وعزاء في نسج حبكة قصصيّة، ومنحها التشويق اللازم لشد القارئ وتوثيقه بالمؤلف. لذلك تصرح فيدا وينتر بنفورها من الحقيقة، وتفضيلها للسلامة المريحة التي تقدمها الكذبة. وهو ما يشكل تحدياً كبيراً لكاتبة سير ذاتية مغمورة متواضعة، تدعى مارغريت، تمثل قصص الحياة المنتهية هواية بالنسبة لها. وهو ما يترجم فعليّاً بشغف مطالعة الأدب الكلاسيكي القديم، المتسلسل من البداية فالوسط والنهاية، أي يشكل ترتيبا ذهنيا مثاليا لوقائع حقيقيّة منتهية، لا تحمل بين طياتها تهديداً يهاجم صلابة الصَدَفة التي يستكين داخلها الإنسان الوجل والخائف من مغادرة كهف الظلال الأفلاطوني. ومن ثم يغدو عملها اليومي في متجر الكتب مماثلا للعناية بقبور الموتى، فترعى الكتب القديمة، وتصونها بالتنظيف وإصلاح هيكلها المتداعي بفعل الزمن، وتحفظها في حالة جيدة. وبذلك تقع على نسخ مهترئة لرواية مرتفعات ويذرنغ، وأخرى لجين إير، والتي تشكل نقطة علام في الذخيرة الثقافية لكل ناطق بالإنكليزية، فتلعب صفحة متآكلة من رواية جين إير دور قبس يضيءُ ظلمات نفوس توارت خلف ستائر النسيان.

    ومع أنَّ ساترفيلد تتبنى النمط الكلاسيكي في روايتها، إلا أنّها تضيء مفاصل نفسيّة حساسيّة من الحياة المعاصرة، من خلال إسقاطها في مستنقع العلاقات الخطرة ضمن القصور الأوروبيّة القديمة، التي تشكل التفسيرات الحديثة للحكايات الشعبيّة، كالحسناء والوحش، ورابنزل والأميرة وحبّة الفول، وجهها الحقيقي المسربل بخديعة الخيال. فتنمو علاقة عشق سامة بين أخ وأخته، تشارلي وإيزابيل، تثمر عن توأمين ترثان الغباء المدفون بعناية تحت العباءة الارستقراطية، فتظهر إيميلاين صفات التبلّد والانغلاق والقبول بالأذى، وتحظى آديلاين بخاصيّة العنف والكراهية المتوارثة عن الأب ـ الخال فتفرغها في جسد شقيقتها، كحال الأخ مع شقيقته، وبذلك تجسدان تناسلا لثنائية الخير غير العاقل والشر المُصان بالجهل.

    بالمقابل، تجسّد شخصية مارغريت نقيضا لفيدا وينتر، إذ تفتح عينيها في متجر الكتب العائد لوالدها، إذ يتوفر مكان آمن لجميع الكتب التي كتبت سابقا بحب شديد، لكن لم يعد هناك من يريدها الآن. وعدا عن كونه مكاناً للقراءة، يصبح المتجر بيتها وعملها ومدرستها وجامعتها الخاصة، وبمعنى أدق يغدو حياتها. وهذه الحقيقة الثابتة داخل وعيها كنقطة استناد، تهتز عند مواجهة قصص فيدا وينتر المبوبة تحت شعار «ثلاثون عاما من التغيير واليأس». فتفارق الأمان الذي يمنحه الكتاب الأموات، أصحاب النهايات الكلاسيكية الواضحة، لتستعيد السمات العذريّة للقارئ المبتدئ، قبل أن تقع في أسر قصصها، التي حققت نجاحا كبيراً لأنّها تنضوي تحت ترتيب صحيح، يضمُّ بداية ومنتصف ونهاية.

    «أخبريني بالحقيقة»؛ سؤال يطرحه صحفي شاب على فيدا وينتر، فتختلق له حكاية، تضاف إلى متوالية الأوهام المحيطة بشخصيتها المشهورة بالقصص والأسرار، فلا أحد يعلم حقيقتها، كأنما جاءت من الفراغ، فكتبت شخصيتها وكتابها الأول معا.. لكن اختيارها للاسم المستعار، والذي يمتزج فيه المعنى الهندي والفرنسي، يقود مباشرة إلى فكرة الحياة الآتية من الفراغ، بينما يضيف اللقب وينتر، أي الشتاء باللغة الانكليزية، الكآبة واليأس إلى المحتوى المقترن بالاسم، فتقع مارغريت في مصيدة اللغز المثالي، حين تستدعيها وينتر لتدوين سيرتها الذاتية. فيما يؤكد لها تمثال نصفي لها يُزين إحدى القاعات الرسميّة صورة امرأة بلا روح، بسبب الجمود الذي تعكسه عيناها. 

    تجسّد السيرة الذاتية لفيدا وينتر الحكاية الثالثة عشرة، وتبتدئ ببلوغ التوأمين إيميلاين وآديلاين عامهما الثالث عشر، والذي يشكل كرقم نقطة تحول أساسية في حياة كل صيرورة إنسانيّة، رغم تحريف هذا الرمز وشيطنته غربيا، من خلال اتخاذه كرقم يدل على الشؤم. وفي الرواية يدل على التغير الخطير في حياة التوأمين والذي حدث بفعل الإبعاد والفصل بينهما، بتدخل مربية أدخلتهما في تجربة نفسيّة، عقب إرسال أمهما إيزابيل إلى مصحة عقليّة. ونتائج هذه التجربة تتوّج بإشعال آديلان الغامضة وصاحبة القلب المظلم لحريق في مكتبة القصر، بغية قتل الرضيع الذي أنجبته إيميلاين، فتنتهي حياتها على يد الشبح، وتتحول إيميلاين إلى كائن مشوّه عاجز. 

    وعلى غرار كل محاكاة فلسفيَّة تبرز الحاجة إلى طرف ثالث، يؤدي دور الشاهد والشهيد في الوقت نفسه، ويتحقق في شخصية طفلة سندريلا اليتيمة، المجرّدة من أي اسم أو لقب، والتي ماثلت التوأمين في العمر وتطابقت معهما في الشكل، لكنّها عاشت منذ عامها الثالث كنبتة برية مهملة، حتى التقطها بستاني القصر واعتنى بها مع مدبرة المنزل، لتتحول إلى شبح يعيش بلا اسم، يخرج من الفراغ ويعود إليه، قبل أن يتخذ اسما ولقبا عقب واقعة الحريق: فيدا وينتر.  

    وكي تتعايش فيدا وينتر مع الحياة العلنيّة تحبس نفسها طوال ست سنوات في مكتبها مع شخصيات من مخيلتها، وتشرع في كتابة كتاب جديد بعد خمس دقائق من انتهاء الأخير، كي تتجنب النظر في عيني توأمها إيميلاين، بعد انتحالها شخصية آديلاين الميتة، لتسهيل التعامل مع محامي الأسرة لإدارة التركة العائدة لتشارلي الميت.. وحين تسألها مارغريت عن أسباب غزارة الإنتاج، تختصر مأساة الحياة المُجهضة بـ «حين لا يساوي المرء شيئا يضطر إلى الابتكار. يملأ الفراغ».

    بدا الأمر لمارغريت أشبه بالعيش بشكل كامل داخل كتاب، وتحديدا ضمن الحكاية الثالثة عشرة، التي اتصلت نهايتها الحزينة بثمن السعادة الذي دفعته عروس البحر في الحكاية الثانية عشرة. إذ تخرج سندريلا فقيرة من منزلها البائس وهي تطارد حلمها بأمير وسيم، ينتشلها من القاع، فيغتصبها صاحب القصر تشارلي، انتقاما من زواج إيزابيل الصوري بأحد الأثرياء، واختفائها ستة أشهر قبل عودتها ومعها التوأمان، وفي الوقت نفسه، تخرج التوأم الثالثة إلى وجود مهمش يعادل حياة الأشباح في البيوت القديمة.