د. عبدالله علياوي
عندما نفقد شخصا مثل عبدالاله النصراوي زعيم الحركة الاشتراكية العربية، نتيقن أن الزمان صار بخيلا في إنجاب الشخصيات ذات النفوس العالية التي تجمع الحكمة والنضال والنزاهة في نفس الوقت، الشخصيات التي تنتصر على أهوائها وجشعها فلا تدخل سباق الرثاثة والسوء، وتتجنب تلويث يدها بالمال الحرام وتحمي تاريخها ونضالها وسمعتها الشخصية من كل إساءة.
لقد رحل النصراوي بعد عقود طويلة من النضال السياسي والفكري، بعيدا عن العراق الذي ناضل من أجل حريته وكرامته ومطالبا بالعدالة لأهله، وكان رحيله مؤلما ومحرجا، ومصدر الألم أن النصراوي واحد من قلة احتفظوا باحترامهم لأنفسهم ولشعبهم ولم يتاجروا بنضالهم، ولم يجعلوا من شهداء وسجناء حركاتهم سلما للسلطة والثروة، وكان رحيله محرجا، لأنه ذكر الجميع بالنقاء والنزاهة اللتين تم تجاهلهما ونسيانهما لفترة طويلة، رغم أن رجالا مثل عبدالاله النصرواي ما زلوا يحتفظون بهما.
لا تنكر أي حركة سياسية في العراق والمنطقة إن النصراوي كان مناضلا حقيقيا على مدى عقود طويلة، ولم يبخل يوما بمد يد العون للقوى والشخصيات السياسية العراقية المعارضة، فكسب قلوب واحترام الجميع وهذا ما تجسد اليوم بحضور فخامة الرئيس عبداللطيف رشيد وفخامة الرئيس فؤاد معصوم والسيد برهم صالح، كما حضر ممثل عن رئيس الوزراء محمد شياع السوداني كما حضر رئيس الوزراء الاسبق أياد علاوي ووزير الخارجية فؤاد حسين أصالة عن نفسه ونيابة عن الرئيس مسعود بارزاني، إضافة إلى عدد من الوزراء والمسؤولين السابقين وأبرزهم وزير الخارجية الاسبق محمد الحكيم ووزير الثقافة الاسبق فرياد رواندزي، الذي حضر إلى بغداد خصيصا لحضور العزاء والكثير من الشخصيات الرسمية والسياسية في اليوم الاول من عزائه بالعاصمة بغداد، لكنني لاحظت غياب قادة وممثلي الاحزاب الاسلامية.
تميز النصراوي بعلاقات طيبة مع عدد كبير من القادة وفي مقدمتهم الزعيم الراحل الرئيس مام جلال طالباني والرئيس مسعود بارزاني، وكثيرا ما قدم العون للحركة الكردية في أيام الشدة حينما كان مستقرا في سوريا، فقد كان النصراوي مناضلا متحررا من العصبية ويعتبر أن لكل القوميات والاتجاهات حق التعبير عن نفسها والدفاع عن أهدافها وكرامتها، لذلك كان معارضا صلبا للنظام البعثي الدكتاتوري الذي لا يعترف بحق المعارضة والتعددية، وكان النصراوي ممن يجسدون أفكارهم ومبادئهم عمليا ولا يكتفي بالتنظير والخطابات وتشهد له مواقفه بذلك ومنها ما رواه لي شخصيا في شتاء عام 2016، حيث قال إنه كان نزيلا في سجن قصر النهاية المعروف بقسوته أواخر الستينيات بعد وصول البعثيين للسلطة وجاؤوا بأحد كبار المسؤولين في الحكم العارفي للسجن، وأمر السجان جميع النزلاء بالتبول عليه، لكنني رفضت التنفيذ وطلبت من السجان إعفائي ورغم تفهم السجان للطلب لكنه استفسر من الادارة فرفضت الاعفاء من التبول عندها أدركت إن الأمر مفروض من قيادة الانقلاب البعثي، وأثناء هذا كان السجين يبكي ويطلب مني بتنفيذ الامر بسرعة قائلا «هي بقت عليك»، لكنني فجأة فتحت عيني لأجد نفسي في الزنزانة ويحيط بي السجناء، وهم يحاولون إيقاظي ومداواتي، فقد تبين أنني أغمي عليَّ بسبب الضربات القوية المفاجئة من السجانين خلال مماطلتي في تنفيذ
الأمر.
رحل عبدالاله النصراوي عن دنيانا، لكنه سيبقى خالدا بالذكر الطيب والنزاهة والنضال الحقيقي، وعندما تفتش الاجيال القادمة عن شخصيات عظيمة وحرة ونزيهة سيكون النصراوي في مقدمة مجموعة قليلة، ثبتت على مبادئها واحترمت ذاتها وأحبت شعبها.
ولد عبدالاله النصراوي في النجف عام 1942 وتوفي ببيروت في 20 شباط 2023، وبدأ نشاطه السياسي وهو بعمر 14 سنة وفي آيار 1963 نظمت حركته محاولة إنقلابية على البعثيين لكنها انكشفت فهرب النصراوي إلى بيروت بعدما أصبح مطلوبا للسلطة، وبعد عام 1968 رفض الدخول في تحالف مع البعث بعدما طلب منه صدام حسين ذلك وقال النصراوي له «ان العراق بلد المكونات المتنوعة، وعلى حاكمه أن يفهم هذه الحقيقة، فهو متنوع في الدين والقومية وفي المناطق، لا تستطيع جهة واحدة بمفردها أن تمسك زمام الامور في هذا البلد، ومن الاخطاء الكبرى أن يفكر حزب أو تيار لوحده بحكم هذا البلد» وأكد ضرورة حل القضية الكردية بعدالة.
المستشار الاقدم لرئيس الجمهورية