علم المبدأ عند المفكر اللبناني محمود حيدر

ثقافة 2023/03/04
...

 حازم رعد

هو لون من الدراسات تعنى بالبحث عن سر الموجود الأول والذي اقترح تسميته بعلم "المبدأ". 

اشتغل الدكتور محمود حيدر "مفكر وأستاذ فلسفة ولاهوت لبناني" على ابتكار نسق من الدراسات لا نقول إنها مكتملة بشكل تام، بل هي في طور التأسيس للون من المعرفة معنية بدراسة "المبدأ". فما هو هذا المبدأ وعلى ماذا يتأسس وماذا يستهدف؟ هذا ما سنحاول عرضه في هذه المقالة التي هي قراءة في محاضرة القاها الدكتور محمود حيدر بالتعاون بين كلية الآداب في جامعة بغداد والمجمع الفلسفي العربي وبشكل مقتضب.


حاصل الفكرة هي وجود عالم يتوسط عالم اللاهوت وعالم الامكان يصطلح عليه بعالم العقل، وهو الذي أكدت عليه بعض الآثار والنصوص في الفكر الديني فقد ورد [أن الله عز وجل لما خلق العقل قال له أقبل فأقبل، ثم قال له أدبر فأدبر، فقال تعالى: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا هو أكرم عليَّ منك، بك أثيب وبك أعاقب، وبك آخذ وبك أعطي].

إنَّ هذا العالم الذي هو عالم العقل يتوسط عالمين واسطة في الصدور أي صدور الموجودات من عالم اللاهوت إلى عالم الإمكان، إذ الذي تقرره الفلسفة الإسلامية هو عدم إمكان الصدور المباشر لعلة في القابل وليس في الفاعل وهو الحق تعالى.

هذا العالم أطلق عليه الدكتور محمود حيدر "المبدأ" أي انبثاق الموجودات يكون من هذا الفعل الصدوري "العقل الأول" وعلى ذلك الأساس يتوجب التأسيس إلى لون من الدراسات "ميتافيزيقا جديدة" تعنى بالحفر المعرفي وتشريح هذا العالم "المبدأ".  

إذن ليس معنى المبدأ في المقام هو أنّنا نقصد "الله" كما يعلم في الإلهيات، وإنّما الموجود الأول الذي أبدعه الخالق "الجوهر" النومين الذي يضمُّ جميع الموجودات، وبعبارة أوضح هو العقل الأول "الذي نطقت الرايات الدينيّة بأنّه النور الأول".

معنى ذلك أنّنا في بواكير الإعداد لمنهجيّة جديدة تفتح أبوابا ننفذ من خلالها إلى فهم المبدأ الموجود الأول بعد أن صارت الميتافيزيقا بشكل عام "قد تم تحييدها" إلى حدٍّ ما من إعطاء رأي تام في ذلك.

ليس قصورا فيها وإنما القابل، وهو المتلقي العام قد تأثر بمعطيات الحداثة وما بعدها التي أسست لإنهاء ما هو ميتافيزيقي على اعتبار أنه "ما هو ملموس هو معقول"، ومن ثم كل ما هو غير ملموس غير معقول ولا يعول عليه، وهذه القاعدة هي التي أسست لعلم الظواهر وخرجت بذلك عن سكة الميتافيزيقا والوجود، وحتى هايدگر انتفض على المسار الذي يوصل إلى نسيان الكينونة، ولكن لا نجزم أن هايدگر قد قصد بنسيان الكينونة هو نسيان الموجود الأول الذي نحن بصدد التنظير إليه كما يقارب ذلك الدكتور محمود حيدر.

إذن نحن الآن ندخل في ميتافيزيقا أخرى هي استمرار للمسار الفلسفي الذي يبحث في الوجود "المبدأ" أي تدبر معرفة الموجود الأول "النومين" الذي صدرت عنه الوجود برمته.

 - وهذا العالم "العقل الأول" وهو مقام الصادر الأول "الحق المخلوق به" كما يسميه الفارابي، وهو صادر بالكلمة والأمر المعبر عنها في النص الديني [إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون] ويسميه باحثنا "ظهور بالكلمة" ويقارب هذه الفكرة بما يراه بأن عملية "الانفجار الكوني الكبير" إلا تلك التوسعية وتشضية آثار الوجود لهذا الخلق الجديد الصادر الأول الذي هو توسط بين الله والعالم، وهذا الكائن هو وحدة وجود العالم فهو المنطقة الوجودية الوسطى. 

- وهنا نسأل "كما يقول محمود حيدر" عن علاقة العقل الاداتي بالعقل القدسي، فهل أن هذا العقل ينحكم بالمقولات العشرة أم أن له قدرات أخرى يمكن استكشافها والوصول لها. 

وهنا يضع الباحث عقل آخر يعد وسيطا بين العقلين وهو ما يسميه بالعقل الوحياني، وهو عالم الغيب الذي يتدبّر أمر العقل القدسي الأول وهو موضوع علم المبدأ وهذا ما يؤسس لميتافيزيقا جديدة. 

- تحملنا مساعي الفلسفة الحديثة إلى تحويل الفلسفة إلى علم كواحدة من العلوم، ونحن نعلم أنّها ليست علماً يشبه العلوم، وإنما هي رؤية عن العالم ولون من الدراسات التي تقدم استفهامات واجابات عن الوجود والأشياء، وبمعنى أكثر وسعاً هي التفكير عقلياً 

في الوجود والأشياء.

وهذا الأمر داعٍ آخر لفتح منفسح فلسفي ميتافيزيقي جديد بمنهجية ورؤية مختلفة نوعا ما تقدم لنا رؤية واجابات عن الوجود والعام المتعلق بالوجود الأول "المبدأ". 

أي بحث علاقة النومين بالفينومين الذي أوجد النومين، وهذا العلم جامع بين الطبيعة والعلوم الإلهيّة الأخرى ولا انفصال بين هذين العقلين الاداتي الطبيعي والقدسي والرابطة هنا هي العقل الوحياني وهذا العقل هو الامتداد بينهما.

- يعتقد الدكتور محمود حيدر أن هذا العلم يمنح الإنسان المعرفة بماهيته المتسامية أو المتعالية أي أنّه يكشف عن كينونة الإنسان لذاته ويصور لها قيمتها العليا كذات تمتدّ إلى المبدأ وترتبط به وهذا بدوره يجعلنا نستحضر الاشتراط السقراطي في معرفة الذات والكشف عنها (إيها الإنسان أعرف نفسك) وأهم خصيصة نتعرف عليها هنا هي معرفة المبدأ وطبيعة علاقة الذات به حتى نحقق المعرفة التامة بالذات فليس الإنسان بحسب محمود حيدر ليس مجرد عقل مقولاتي، إذ لا جدوى من هذا الإنسان لأنّه سيصبح متماثلا مع موجود آخر لا ميزة وخصيصة خاصة له تميزه عما سواه.

ونحن في علم المبدأ نفترض أن له تساميا وتعاليا يختلفان عن الكائنات الأخرى حتى يسترجع ما هو مفقود في عالم الميتافيزيقا وهذا ما نتقصده من رهان في هذا الفضاء، علم المبدأ. 

- إذن إن غاية علم المبدأ هو اكتشاف المجهول في فضاء الميتافيزيقا والمسكوت عنه في مقول العقل القدسي وتظهير الإنسان بوصفه ذاتاً تتصل بذلك المبدأ، والأمر كله متعلق بالاشتياق والرغبة في الوصول إلى معرفة المبدأ. 

يتحدث محمود حيدر إلى نوع من "الهدنة" بين العقل المقولاتي ذي سلطة على الذات مع العقل الأول هو من يتولى عملية استشراف علم المبدأ، وهنا لا بدّ من التحرر من كل الذاكرة المقولاتية والحمولات الكبيرة التي أترثت العقل المقولاتي وتصفير العقل من المسبقات كشرط أساسي للتعرف على علم المبدأ حتى نقارب معضلة الوجود موضوع الميتافيزيقا قديماً وحديثاً.

أما أنا فباعتقادي أنّ كلّ إسهام معرفي يثري ساحة الفكر ويميط اللثام عن عوالم معرفيّة جديدة تحدد إجابات وتبدع حلولا لمشكلات في العالم، هي في حقيقتها فعل واجب للفلسفة ويقع خطوة في طريق اشتغالاتها في إثراء حياة الإنسان بالتدبّر والحكمة، وأن التأسيس لميتافيزيقا جديدة لهي عملية جديرة بالاهتمام، لأنّها على أقل التقديرات ستحرك العقل وتثير مدفوناته وتثرينا وتقدم لنا نماذج فلسفيّة وفكريّة نجري على غرارها حواراتنا ونقاشنا العمومي، وما العالم إلا فضاء تحكمه الأفكار كما يقول اوغست كونت.