gate.. بلاغة الصمت وجماليَّة العرض

ثقافة 2023/03/04
...

  أ.د. باسم الأعسم 


في عرضه الموسوم بـ (gate) والذي يعني البوابة، سيناريو وإخراج الدكتور حليم هاتف، يسعى المخرج في مقاربته الإخراجيّة للإفادة من معطيات الرمز والجسد والسينوغرافيا، لتأثيث بنية خطاب العرض المسرحي الذي يُحاكي الواقع بطرائق فنيّة وتعبيريّة مشفرة على صعيد الأنساق السمعيّة والبصريّة والحركيّة، إذ إن العرض بسماكته الدلاليّة، يتمحور حول فيض الهموم والمعاناة الإنسانيّة التي تحتشد بها الصدور الحالمة بالانعتاق من أسر الظلمات، لكسر التابوات، ومن ثم التحليق باتجاه الآفاق الرحبة لمعانقة الحرية والعيش بسلام.


لقد استثمر المخرج معطيات التقنية والفنون كالموسيقى وخيال الظل والضوء وبعض الإكسسوارات، لأحكام بنية خطاب العرض المسرحي في منأى عن أيما ملفوظ لساني، بل أن الأصوات والإشارات والإيحاءات الأدائية التعبيرية، هي الأدوات الفنية المعبرة عن جسامة الهموم المعتملة في نفوس الممثلين الذين يمثلون بنحو خاص- الشباب الحالمين بالحرية، والمتطلعين إلى غدٍ مشرق بلا قيود وأبواب موصدة.

ثمة علامات سيميائيّة (صوتيّة وبصريّة) أريد لها أن تكون الفاعل الرئيس في تأثيث شعريّة العرض وجماليته، كصوت القطار، والمطر والرعد والبحر، والحقائب، والمعطف بدلالته السياسيّة وقطع القماش ذات اللونين الأبيض والأسود، وسوى ذلك من إكسسوارات ذات دسومة مضمونية اختتمت بالعباءة السوداء التي كانت بمثابة ستارة العرض التي أسدلت معلنة النهاية التراجيدية للأحداث، أو الخاتمة المأساوية التي عولجت بجماليّة واضحة.

لقد غيّب المخرج ملامح المكان والزمان ووجوه الممثلين، بقصد منح العرض الأبعاد الإنسانيّة، ومن ثم التعبير عن دواخل الشخصيات من آهات عبر إيحاءات الأجساد المدعمة بالتمثيل الصامت وخيال الظل والبقع الضوئية والإكسسوارات الساندة لثيمة العرض الفلسفية والإنسانية المتمحورة حول الهجرة، وتحقيق الذات الإنسانيّة.

ولتحقيق أعلى مستويات التلقي والاستجابة تصدر نسق الأداء التمثيلي الذي اتسم بالمرونة والإيقاعيّة والضبط الجمالي المجسّد للمشاعر الإنسانيّة الداخلية للشخصيات على تباين قدراتها، وبالأخص الممثلين (نوفل خالد) و(سيف الدين علاء الدين) اللذين امتازا بمرونة ولياقة جسديّة منضبطة وتعامل شعوري دقيق مع الإضاءة والإكسسوارات، بروحيّة الممثلين المحترفين، فكانوا بحق مركز ثقل العرض المسرحي البصري ذي البعد التشكيلي المموسق.

لقد لعبت الموسيقى دوراً شاخصاً في مساندة وملاحقة الأحداث طوال زمن العرض فمنحته بعداً إيقاعياً متحولاً حتى في دويها المتوافق مع سخونة الأحداث، لا سيما أنه قد حفل بالثنائيات المتقابلة على صعيد الحركات والأفعال مثل (التقابل والتعاكس، الواقع والافتراض، الاستهلال والختام، الحركة والتوقف، الإضاءة الحمراء والإضاءة الزرقاء.. إلخ).

إنّ البوابات الدالة على عنوان العرض ومتنه الثيمي، التي تأطرت بالإضاءة الحمراء، قد كانت بمثابة الهدف، والممثلون هم اللاعبون الذين يسعون لتحقيق الفوز باختراق الهدف، من خلال جموع الممثلين المنتفضين للإيحاء بانتفاضة تشرين التي رسمت النهاية التراجيدية للعرض الموشح بالجمال والأسى. ولعل مشهد المرأة (الأم) التي ترثي وتؤبن أولادها، الذين توسدوا الشارع، قد كان من أبلغ المشاهد مع مشهد المعطف بدلالاته الموحية، وكذا الحقائب المعلقة المحشوة بأحلام الشباب الحالم بالحرية.

إنّ من فضائل هذا العرض التي تحسب لصالح المخرج د. حليم هاتف، اتخاذ أجساد الممثلين أداة بديلة عن الملفوظ اللساني أو اللغة المحكية، ومن ثم إناطة الأدوار إلى طلبة غير محترفين، لكنهم جسدوا بتشكيلاتهم الفنية، وحركاتهم الموحية، الضفة الجمالية الأخرى للعرض المسرحي الذي صدم آفاق الجمهور لصوره الباذخة.

وبإيجاز، أن المخرج الدكتور حليم هاتف قد أجتهد وغاير المألوف في صناعة العرض، فأنتج عرضاً حداثياً أفاد من معطيات الرسم والسينما والسينوغراف لمقاربته التي وازنت بين مبنى خطاب العرض ومعناه على وفق رؤية تجديديّة معاصرة منحت العرض سمات الجدة والاجتهاد والمغايرة، فكان عرضاً احتجاجيّاً بالأجساد.