الصين تتجسَّسُ على إسرائيل

بانوراما 2019/04/12
...

يوسي ميلمان*
ترجمة: مي اسماعيل 
تجاهل بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، العمليات الاستخبارية الصينية والروسية لوقت طويل؛ لكن الحكومة الاسرائيلية بدأت أخيراً بتركيز الانتباه عليها.. ربما بعد فوات الأوان. فمن المفترض أنْ يقدم مجلس الأمن القومي الإسرائيلي “NSC” الى الحكومة خلال شهر نيسان الحالي توصياته بشأن الاستثمارات الأجنبية في اسرائيل. ولحساسية الموضوع لا يرغب أحد من المعنيين بالحديث عن.. “الفيل في الغرفة”؛ ولكن من الواضح أن مراجعة مسار السياسة وكذلك التقرير المشار إليه يركزان أساساً على الصين. فخلال العقد الماضي زادت الصين من استثماراتها العسكريَّة والاقتصاديَّة واهتماماتها بمنطقة الشرق الأوسط؛ ومن ضمنها اسرائيل. تجاهلت الحكومة الاسرائيلية تصرفات الصين أطول من اللازم؛ لكنها ركزت عليها الاهتمام مؤخراً. وعلى مجلس الأمن القومي الإسرائيلي الآن التوفيق بين اثنتين من السياسات المتناقضة؛ كلاهما مهم للاقتصاد الاسرائيلي ومصالح أمنه القومي
فبالنسبة للأولى هي سياسة تبنتها الحكومة بأجمعها على اتساع طيفها السياسي لعدة عقود؛ وهي تشجع الاستثمار الأجنبي وخصخصة الأصول والمرافق الوطنية وتوسيع الأسواق الدولية للمنتجات الاسرائيلية. وفي السنوات الاخيرة، وكما هي حال العديد من المصدرين الآخرين؛ اتجهت أنظار المؤسسات الاسرائيلية الى الشرق.. حيث الاقتصادات المتنامية لدول آسيا في طور التقدم؛ وخاصة الصين. كشف استطلاع أجرته مؤسسة المخابرات الاسرائيلية منذ وقت قريب (في الاوساط الاستخبارية الخاصة وليس المجال العام) أن الاستثمار الصيني داخل منطقة الشرق الأوسط قد ارتفع نحو 1700 بالمئة للفترة ما بين سنوات 2012 الى 2017.
 
تبادل تجاري متسع
استثمرت الصين عموما نحو 700 مليار دولار لدى المنطقة؛ كان نصفها تقريباً في قطاع الطاقة، ونحو 150 ملياراً للبحوث والتطوير، و113 ملياراً أخرى للصناعة، مع 103 مليارات لقطاع النقل، و68 ملياراً لغرض تطوير المجال العسكري، وأربعة مليارات على شكل قروض اقتصاديَّة، و155 ملياراً فقط للمساعدات الإنسانية لتلك الدول. لقد نمت تجارة الصين الثنائيَّة مع إسرائيل على امتداد ربع قرن تقريباً (خلال سنوات 1992 - 2017) من خمسين مليوناً الى أكثر من 13 مليار دولار؛ لتكون الصين أكبر الشركاء التجاريين لاسرائيل في آسيا وثالث أكبر الشركاء على مستوى العالم؛ بعد الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. وخلال النصف الأول من سنة 2018 وصلت واردات الصين من اسرائيل الى ثلاثة مليارات دولار؛ وهذه زيادة بنحو 47 بالمئة، مقارنة مع الفترة نفسها من سنة 2017. أما السياسة الثانية فتنادي بالدفاع عن الأصول والبنية التحتية الوطنية والستراتيجيَّة ضد السيطرة والاستيلاء عليها من قبل الحكومات والشركات الأجنبيَّة؛ حتى وإنْ لم تكن تلك معادية لاسرائيل. ولأنَّ الاقتصاد الاسرائيلي يقومُ على التقنيات الحديثة؛ تواجه الدولة العبرية أيضاً مشكلة دقيقة تتمثل بالتجسس والسرقة الأجنبية لتقنياتها المتطورة ومعارفها. فقد عززت روسيا والصين خلال السنوات الأخيرة جهودهما التجسسيَّة في اسرائيل؛ وعلى وجه الخصوص للوصول إلى كل من شركات التكنولوجيا الإسرائيلية المملوكة للدولة والقطاع الخاص، ومن ثم الوصول عبرهما الى الولايات المتحدة؛ حليف اسرائيل الأقرب. استهدفت الصين أكبر مصدرين إسرائيليين للأسلحة– مؤسسة الصناعات الفضائية الاسرائيلية ومصنّعي الاسلحة “رافاييل-Rafael”؛ اضافة لشركة “أنظمة ايلبيت- Elbit” للتقنيات الدقيقة. المؤسستان الاوليان ملكٌ للدولة، وللثلاث شركات فرعية لدى الولايات المتحدة تسهم في تصنيع أكثر أسلحة اسرائيل تطوراً؛ وبضمنها الصواريخ وإلكترونيات الطيران. ترغب وكالات الاستخبارات والحكومات حول العالم بالحصول على تلك التصاميم وأسرار التصنيع.
كشفت تحقيقات وكالات مكافحة التجسس الاسرائيلية أنَّ قراصنة الحاسوب الصينيين كانوا مهتمين بشكل خاص بعلاقات الشركات الاسرائيلية مع متعاقدي الدفاع في الولايات المتحدة. تتعاون المؤسسات الاسرائيلية مع نظيراتها الأميركيَّة من أمثال: “رايثيون- Raytheon”، “بوينغ- Boeing”، و”لوكهيد مارتن- Lockheed Martin”  لإقامة مشاريع مشتركة تضم- انتاج طائرات “أف 16” و”أف 35” الحربية، وأنظمة “آرو-Arrow” للدفاع المضادة للصواريخ الباليستية. ويبدو بوضوح أن الصين تعتبر اسرائيل الباب الخلفي الذي تستطيع بواسطته الدخول واختراق البرامج السريَّة الأميركيَّة.
 
بحثاً عن التكنولوجيا الدقيقة
إسرائيل قوة عالمية عندما يتعلق الأمر بالحرب الإلكترونية؛ وهذا أمرٌ بالغُ الأهمية جداً بالنسبة لموسكو وبكين. فاذا استطاعتا سرقة أحدث التقنيات؛ قد يُحدِث ذلك خرابا في الولايات المتحدة وديمقراطيات غربية أخرى. لا عجب أنَّ لكلا الدولتين سفارات كبيرة لدى تل أبيب؛ تعمل كمحاور لتعزيز مصالحهما. كانت الصين مهتمة (حتى وقت قريب) بشراء قطعة أرض في ضاحية “هرتزليا بيتواش” الراقي، لإقامة سفارتها الجديدة. وتلك المنطقة قريبة من مقر الموساد (= وكالة الاستخبارات الاسرائيلية) والوحدة 8200 التابعة لوكالة الاستخبارات العسكرية (فيلق وحدة الاستخبارات الإسرائيلية المسؤولة عن التجسيس الإلكتروني في مفترق غليلوت شمال تل أبيب- المترجمة).
واجهت روسيا والصين؛ في محاولة اختراق أنظمة المنشآت الدفاعية وسرقة التقنيات المتعلقة بالأمن؛ خصماً شرساً ماهراً هو الشين بيت “Shin Bet”، وهو جهاز الأمن الداخلي في إسرائيل، المتخصص بمكافحة التجسس وحماية المعلومات. ولكنَّ القطاع الخاص، وتحديداً المؤسسات التي تنتج تقنيات يمكن استخدامها لأغراض عسكرية ومدنية في آنٍ معاً؛ أقل تمتعاً بالحماية. تجاهلت الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة الخطر الأمني الصيني لعدة سنوات؛ بل على العكس شجعت رجال الأعمال الصينيين على الاستثمار في اسرائيل وشراء أصول هناك. ولكنْ عندما يتعلق الأمر بالصين فإنَّ القطاع الخاص المزعوم شيء خيالي؛ فالحكومة تسيطر على الاقتصاد، وكل من يحيد عن إرشادات الحزب يتلقى عقوبات شديدة.
وهكذا غزت الشركات الصينية اسرائيل طيلة السنوات الخمس عشرة الماضية. اشترت الصين شركة “تنوفا-Tnuva”؛ وهي اسم معروف وأكبر منتج للألبان، وفازت بمناقصات لبناء الطرق وخطوط سكك الحديد الخفيفة داخل تل ابيب وأنفاق الكرمل في حيفا. كما عبرت الصين عن نية شراء شركات تأمين وبنوك اسرائيلية، واستئجار مساحات شاسعة من الأرض في صحراء النقب لزراعة الأفوكادو والقمح، وبناء خط سكك حديد من تل أبيب الى إيلات. تعمل شركات البناء الصينية الآن على توسيع ميناءي اسرائيل الرئيسين في حيفا وأشدود؛ حيث تمر عبرهما أغلب تجارة اسرائيل. والأكثر إثارة للقلق أن الشركات الصينية حصلت على امتياز لتشغيل وإدارة الموانئ الجديدة لمدة 25 عاماً. بالنسبة لهذين الميناءين فهما يمثلان أيضاً قاعدة للقوة البحرية الاسرائيلية؛ وبضمنها البنى التحتية عالية التحصين التي تضم اسطول الغواصات. كان قرار بناء ميناء حيفا نتيجة لحرب عام 2006 في لبنان، وأثناء الحرب ضربت صواريخ حزب الله حيفا مستهدفة الميناء والقطع البحرية التي كانت متوقفة قبالة الساحل.
تقول التقارير إنَّ اسطول الغواصات (وعددها خمس جرى تصنيعها في ألمانيا، ومن المخطط أنْ تصل السادسة من المصدر ذاته بحلول العام المقبل، إذ يحمل صواريخ ذات رؤوس نووية؛ ومن ثم يعطي إسرائيل قدرة الضربة النووية الثانية.. إذا (أو عندما) تحصل إيران على قنابلها النووية، وهي موضوع نقاش داخل المنظومة الأوروبيَّة المتفاوضة مع طهران.
 
تحذيرات أميركيَّة مستترة
على امتداد سنوات عدة شجع رئيس الوزراء نتنياهو ونائبه (وزير النقل والمخابرات يسرائيل كاتز، وهو الآن القائم بأعمال وزير الخارجية) الصينيين على الوصول إلى السوق الإسرائيلية وتفاخرا بإنجازهم. بعض المسؤولين فقط حاولوا تحذير نتنياهو ووزارته؛ ومن ضمنهم قادة “الشين بيت” وافرايم هاليفي؛ رئيس الموساد السابق.. لكن تحذيراتهم لم تؤخذ جدياً.. حتى شاؤول شوريف؛ الأدميرال السابق وقائد أسطول الغواصات للسنوات من 1980-1985، والذي كان أيضًا أحد مسؤولي وزارة الدفاع والمدير العام لهيئة الطاقة الذرية الإسرائيليَّة (IAEC)؛ لم يبدُ منزعجاً من الأمر وبقي صامتاً. الآن عبّر شوريف (بصفته مدير مركز أبحاث حيفا للسياسة والستراتيجية البحرية بجامعة حيفا) عن بعض المخاوف بشأن الجيران الصينيين الجدد قرب اسطول الغواصات، قائلا: “أعترفُ أنني لم أكن مهتماً بالأمر بما فيه الكفاية؛ فحينما كنت مديراً لــهيئة الطاقة الذرية (IAEC) كنتُ مشغولاً جداً بأمور مهمة أُخرى. لكنني والمركز الآن نعمل بنشاط لرفع الوعي بهذه المشكلة”.
لقد تغير إهمال إسرائيل البيروقراطي للأمر فقط بسبب الضغط الخارجي؛ فالإدارة الأميركيَّة ترى في الصين خصماً أساسياً، وقد حولت اهتمامها من الشرق الأوسط الى آسيا والمحيط الهادئ وشبه الجزيرة الكورية. أعلن الرئيس الأميركي ترامب حرباً تجارية ضد الصين، محاولاً تحجيم تمددها الاقتصادي والعسكري. وكان أحد مخاوف أميركا هو دخول الصين في مشروع ميناء حيفا؛ الذي يستضيف زيارات متكررة لسفن الاسطول السادس الأميركي؛ وبضمنها حاملات الطائرات.. ولهذا استقطب وجود الصين في اسرائيل اهتمام واشنطن..
طلبت إدارة ترامب من اسرائيل تخفيض علاقاتها مع الصين؛ وجاء ذلك في طلب مباشر قدمه مستشار الأمن القومي جون بولتون. لا ترغب اسرائيل بتوجيه إهانة إلى الصين؛ فهذا أمر حساس للكرامة الوطنية، وسترد عليه الصين حتماً دون شك. لكنَّ اسرائيل لا تستطيع تجاهل طلب (هو في الحقيقة أمرٌ) من أهم حلفائها الستراتيجيين. وكانت الدولة العبرية قد خضعت سابقاً للضغوط الأميركيَّة (على قدر تعلق الأمر بالعلاقات بين الأطراف الثلاثة) لأنه كان عليها أنْ تخضع. من شبه المؤكد إنَّ الفشل والإهمال السابقين (خاصة بالنسبة للموانئ) أمرٌ لا يمكن إصلاحه؛ ولا يمكن إلغاء العقود المعطاة الى الشركات الصينيَّة. فعندما تعلن حالة الحرب ستذهب جميع الغواصات الى البحر؛ لكنها (والاسطول الأميركي كذلك) ستبقى معرضة لهجوم مباغت. لذا من المتوقع أنْ يركز تقرير مجلس الأمن القومي الإسرائيلي المرتقب على المستقبل ويبحث عن حلٍ يرضي واشنطن دون إهانة بكين؛ مقدماً للحكومة مجموعة من التوصيات تعالج المتطلبات الاقتصاديَّة وتدافع في الوقت نفسه عن الأجهزة الستراتيجية الضرورية ومصالح اسرائيل في مجالات المياه والأرض والطاقة والغذاء والاتصالات والتمويل.
يتضح هنا شيء واحد: اذا قاد التقرير الى سن قوانين أو تشريعات جديدة؛ فسوف يتبنى لغة فضفاضة تتفادى الإشارة الى دولة بعينها. وسيشير الى جميع الحكومات والشركات الأجنبيَّة؛ رغم أنَّ الجميع يعرف الآن أنَّ أهدافه الأساسيَّة ستكون روسيا والصين.
 
* يوسي ميلمان صحفي اسرائيلي تخصص في قضايا الأمن والاستخبارات، وشارك في تأليف كتاب: “جواسيس ضد هرمجدون: داخل حروب إسرائيل السرية”