أيُّها الزائر لا تُوقظ الموتى

ثقافة 2023/03/05
...

  صالح حسن فارس*

قبل ثلاث سنوات حجزت أربع تذاكر طيران للعراق مروراً بتركيا، حزمنا الحقائب وتهيّأنا أن نحزم أرواحنا ونعبر إلى الضفة الأخرى، ضفة الشوق والحنان. قررنا أن نسافر في الأسبوع المقبل، بعد أن مضت خمسة سنوات من العمر، على آخر زيارة لنا إلى بغداد، لكن تبخرت أحلامنا حين سمعنا أن الصحة العالميَّة تحذر من انتشار فيروس جديد قاتل اسمه «كورونا» تسمرنا أمام شاشة التلفزيون، وأدمنا متابعة أخبار هذا الوباء اللعين، وهو ينتقل من بلد الى آخر ليقتل الناس بكل شراسة. ظل أطفالي يكررون عليَّ سؤالهم، متى يا بابا نذهب إلى بغداد؟ قريباً سينتهي الوباء وستعود الأمور إلى ما كانت عليه قلت لهم.

كنتُ أرى في عيونهم البريئة بريق الأمل، فآخذ نفساً عميقاً، ثم بعدها امتطي دراجتي الهوائية.. أترك خلفي البيت بمن فيه وأتوغل في أعماق الغابة. لأزيح عن صدري جبال الهموم الجاثمة عليه. كنتُ أرى في الغابة صوراً لنخيل العراق، وأرى في جداولها صوراً لنهر دجلة الخير.

مرت سنوات على فراق المدينة التي أعشقها، بغداد الحبيبة، بدأتُ أشعر بالمنفى بوصفه رحماً بديلاً، رحماً تتغذى فيه روحي على عطور وروائح وأذواق مختلفة تماماً عما تعودتُ عليه. كان هذا الرحم اصطناعياً، ترفضه روحي.. لكني مع هذا اتخذته بديلا عن وطني، لم يكن هناك خيار آخر.. هربتُ من الديكتاتور إلى فضاء الحرية. 

يوميّاً أردد مع نفسي وأقول: متى نتخلص من هذا الوباء الخبيث، الذي حاول الأطباء تطميننا منه فأخذوا يسمونه تسميه علمية (كوفيد -19) عطل حياتنا وسفرنا وأحلامنا بشكل كامل، لا طيران في السماء، شوارع شبه خالية، الرعب انتشر في كل مكان، الموتى تجاوز عددهم عشرات الملايين. حصد الكثير من أقاربي وأصدقائي هنا وهناك، قضى على شطر كبير من ذاكرتي وحياتي.. بكيت عليهم بحرقة مثل بكاء أرامل التراجيديات اليونانية، كنتُ أتوغل في غابات المنفى وأفكر في الموت المرعب، ربما أموت وأترك أطفالي وزوجتي. إنه زمن حجر صحي ومنزلي. مرت المدينة التي أسكن فيها بأيام عصيبة. (والطبيعة اعادت توازنها). 

قبل أن يأتي هذا الفيروس كنتُ أرى جيراني صباحاً وهم يسيرون بسرعة إلى أعمالهم، الكل مستعجل هنا، الكل مسرع، وكأنهم يهرعون للحاق بقطارعلى وشك الانطلاق، لا أحد يهتم بك، إنك تنظر أكثر مما يُنظر إليك، جاري الرجل العجوز الذي يرتعد خوفاً من الموت، لم أره منذ فترة طويلة، لا يفتح باب عمارة السكن إلا بإصابعه المطمورة في القفاز، كان يفتح الباب بمرفقه، يفتحه بكل هدوء ورعب وخوف، فقد يكون مقبض الباب ملوثاً بفيروس”كورونا” ينتظرالدخول بجمسه عن طريق مقبض الباب.. كانت حاسة اللمس معطلة لدى الجميع، ولا أحد يجرؤ على إصدار قرار نهائي يقضي باستعمالها! لا يد تلامس مقبض الباب الرئيسي ولا أي شيء..

الكل يريد أن يسير في عالم مفرغ من الهواء، وجميع الأشياء! . كنتُ اراقب ذلك الرجل العجوز من النافذة، وهو يدخل ويخرج من شقته. كنتُ اخاف عليه من الإصابة بهذا المرض.

أما عن جارتي الهولندية كبيرة السن، فتمسك منديلاً حين تفتح باب سيارتها، بكل حذر وخوف، ثم ترمي المنديل في كيس المهملات، من دون أن تسمح لباب السيارة أن يلامس المنديل إلّا من الداخل فقط. كان الكل حذراً، فلكل يخاف من الكل، التحذيرات كانت كثيرة ومشددة، لا تعطس في الشارع أو في السوق، التلامس والتصافح ممنوع بين الناس، الحوار بين اثنين أو عشرة، يتم على بعد متر ونصف.

قال لي ابني الصغير:- إذا أُصبتُ بمرض “كورونا” هل ستُعانقني يا أبي؟. قلتُ له بثقة عالية أنا وروحي سنعانقك معاً، بكينا سوية وتعانقنا. ثم قالت لي ابنتي:- بابا أريد أن أذهب للمدرسة، أريدُ أن ألعب مع الأطفال، البيوت في أوربا صغيرة، وهذا لا يسمح للأطفال باللعب بحرية داخلها. كانت فترة عصيبة، مللنا من قراءة الكتب والجرائد والمجلات، ومشاهدة الأفلام، ومتابعة الاخبار، كل المواضيع كانت تدور عن هذا المرض المُرعب، سابقاً كنتُ على استعداد أن أشاهد الأفلام على مدار الأسبوع، من دون ضجر! أما الآن فقد أصبح الخروج من المنزل، يصاحبه إحساس عميق بالخوف المدمر! بيد أن اللعب مع الأطفال، كان يخفف كثيراً من حدة الضجر وازعاج حظر التجوال. 

بعد انتظار طويل ومتعب هدأ هذا الفيروس اللعين، وكنتُ حينها لا أتخيل أن تنتهي أزمة الحجر المنزلي، ليس في “هولندا”، فحسب، وإنما في كل العالم، كنتُ أسال نفسي مرات ومرات، هل ينتهي ويختفي هذا الشبح، الذي ملأ قلوبنا خوفاً، وهلعاً ورعباً؟ وهل نتمكن من أن نسافر من جديد إلى بغداد؟. ازحنا “كورونا” من ذاكرتنا، ونحن عائدون إلى بغداد.


العودة من امستردام إلى بغداد:

في يوم شتائي مُمطر، وعالم يكسوه الثلج، وغمره الضباب، حشرنا الهدايا في كل زاوية من الحقائب، حزمنا حقائبنا، وكان الفرح يملأ الفضاء، باتجاه الحلم البعيد المتواري، كان الجو بارداً جداً، والوقت كان صباحاً، وحبات المطر المتراخية، كانت تدغدغ زجاج نوافذ السيارة التي أقلتنا إلى مطار أمستردام. 

كنا أربعة أشخاص، زوجتي، ابنتي، ابني، وأنا. كانت أمستردام تسبح في بياض الثلج، الأشجار والبيوت تتوهّج بشرائط ملوّنة، ابتهاجا واستعداداً لاستقبال أعياد السيد المسيح ورأس السنة الميلادية الجديدة. أوصلنا صديقي السوري بسيارته إلى المطار، إنّه رجل هادئ الطبع، لا يتكلّم كثيراً، ودّعنا وقال لي: كُن حذراً، عُد إلينا بأخبار حلوة.

بسرعة أنجزت لنا الجوازات بسرعة شابة هولندية جميلة وأنيقة، مع ابتسامة وديعة ودافئة... ودعناها من دون أن يفارقنا شذى عطرها لمسافة ليست بالقصيرة، صعدنا سُلّم الطائرة التي تشق صمت السماء والغيوم، كنتُ منتشياً برفقة زوجتي وأطفالي الذين كانوا يمطرونني بالأسئلة المتعاقبة. بعد انطلاق الطائرة من مطار أمستردام بنصف ساعة، التمعت عينا ابني الذي لم يزُر بغداد بعد، وما زالت لطخات الشوكولاته عالقة بفمه، نظر إليَّ وصرخ هل وصلنا إلى بغداد؟ قلت له: بابا بغداد بعيدة جداً، لكنها قريبة من القلب وهي علاج للروح والبدن. بعد قليل سننام في حضن رحم الأم الوطن.

تبدو بغداد من الطائرة كأنها قطعة خضراء، سماؤها زرقاء، يعانق قلبها نهر دجلة، بينما كنت مسحوراً بذلك المشهد، كانت نشوة تتصاعد في روحي، وأخذتني الذكريات بسرعة فائقة، إلى أيام أكاديمية الفنون الجميلة، الصور، الوجوه، النقاشات، والحكايات العذبة مع الأصدقاء، حول الفن والحياة. قبل أن ألتقط أنفاسي التي سرقتها مني الرحلة العجيبة داخل الطائرة، باغتتني ابنتي بهمسة طفوليَّة تعلوها البراءة، بابا: هل وصلنا بغداد؟ نعم وصلنا، زادت الفرحة في قوبنا عندما ختم جوازاتنا الهولندية حمراء اللون، ضابط الجوازات، ذلك الشاب الوسيم صاحب الوجه البشوش.

الآن ها قد عدنا إلى الوطن، إلى دجلة الخير وأمنا النخلة العراقية، إلى النبع الأول ومدينة الجذور. كان الطقس شتائياً لكن درجة حرارته 20 مئوية. إنَّ أصدقائي وزملائي في هولندا سيغارون مني لو أخبرتهم بذلك! اعترف بما اعتراني من دهشة غير متوقعة اثناء تجوالي في المطار، بغداد تستقبلنا بالمطر والفرح والابتسامة. كان الوقت قد تجاوز منتصف الليل في بغداد. لقد وصلنا بغداد مدينة قلبي ورأسي، بعد يوم طويل من السفر مروراً بتركيا.


بغداد: 

من نافذة السيارة التي اقلتنا لتنطلق بنا من مطار بغداد إلى ساحة «عباس بن فرناس»، رأيتُ بغداد قد استيقظت تواً من نومها، شممتُ رائحة الأرض، كنتُ أرى أشجار النخيل تمشط شعرها.. ها نحن الآن في بغداد، وكأننا نزورها للمرة الاولى، عند تباشير الفجر، كنتُ أردد أمام أطفالي وزوجتي، هذه بغداد..

عند وصولنا إلى «ساحة عباس بن فرناس» وجدنا أنفسنا أمام حشد كبير من أهل زوجتي الذين كانوا باستقبالنا، خارج المطار، وقد حملوا إلينا باقة من الورود.. لقد استقبلونا بحفاوة كبيرة، ممزوجة بفرح عارمة.. انطلقت من حناجر النساء زغاريد الفرح، ودموع الشوق، كان عناقنا طويلا، وابتسامات، ضحك ومطر..

ركبنا سيارة أخرى، كانت بيضاء اللون، من الموديلات الحديثة، ضخمة الحجم، وكنتُ أتطلع من النافذة أرى لوحة الاعلانات المنتشرة في كل مكان، وكان أغلبها مكتوب باللغة الانكليزية، قطع عليَّ ابن أخ زوجتي ذلك الشاب الأنيق، تأملاتي، وقال لي: اليوم عطلة، وما أكثر العطل في بلدنا، بين عطلة وعطلة عدنا عطلة. ابتسمت وساد صمت بيننا. 

وصلنا إلى بيت أخ زوجتي، أول ما جذب انتباهي، وجود قطعة من القماش الأبيض على واجهة البيت الأماميَّة، مكتوب عليها اسم ورقم تلفون المقاول، الذي رمم واجهة البيت الأنيقة، ضحكنا، ثم دخلنا البيت، كانت تأتيني التحايا من كل صوب، وكأنّهم متفقون على العبارة نفسها، شلونك؟ شلونك زين؟ شلونكم بعد؟ ولا تخلو هذه التحايا من المزحة والابتسامة. في الصالة صور معلقة على الجدار للأحباب الذين رحلوا عنا مبكراً، لقد ظل جهاز التلفزيون مفتوحاً ليلاً ونهاراً، ثمة مصابيح كثيرة مضاءة.

وبعد نوم هادئ، صحوت على دفء مدفأة تتوسطنا، وكان فوقها ابريق الشاي، وكان حاضراً رغيف الخبز العراقي الحار، مع القيمر والكاهي، أطفالي يأكلون بشهيَّة كبيرة، ويتضاحكون، كم هو جميل ولذيذ أن يكون فطورك بغداديَّاً، كان فطوراً شهيَّاً، انتهى اليوم بحالة فرح جماعي.

في المساء انتقلنا إلى بيت أخي الكبير، بعد غيبة طويلة دامت أكثر من خمس سنوات، وقت السيارة عند الاشارة الضوئية، جاءت شابة صغيرة سمراء اللون، تمسح زجاج نوافذ السيارة، في تعبير منها لطلب المساعدة المادية، وصلنا إلى بيت أخي، شاهدتُ على واجهة البيت الأماميّة، صورة معلقة لابنه الذي استشهد في انفجار الكرادة وسط العاصمة بغداد. دخلنا البيت، حضر الجميع، أخي الكبير يرتدي دشداشة تغطي كرشه، يمشي في الغرفة صامتاً، يفرك كفاً بكف، أين العشاء قال بصوته الهادئ؟ أُعدت لنا وليمة عشاء كبيرة، قالت لي أختي:- عليك أن تأكل كثيراً، وجهك أصفر، لقد أصبحت نحيلاً يا أخي، كأنّك بوزن ريشة عصفور مهلس؟. مرَّ اليوم الأول سريعا وخاطفاً، ولا أدري كيف مرَّ، تسمّرتُ بين الأسرة أسمع أحاديثهم. علاقتي بأهلي كعلاقة الأغصان بالشجر،  لكنني كنتُ أتنقل بين أهلي وبين بيت أهل زوجتي. 

في اليوم الثاني، بعد أن نهضت الشمس من رقادها، خرجتُ مبكراً وحدي، فأنا أُحب المشي والتسكّع، وأنا خالي البال، أردد أغنية «سعدي الحلي»: اجيتك من بعد غربة، جيتك بليلة كمريّة، هذاك انه نبع صافي، يخايب دغش ما بيه». كان صباحاً مفعماً بالحيوية والنشاط... لا أفكّر في برد أمستردام، ولا بارتفاع أسعار الغاز والكهرباء، طليقاً كالطير، قلت في سري صباح الخير يا بغداد، وكأني أغازل امرأة خجولة، إنها بغداد التي ولدتُ فيها إني أعرفها جيداً، نعم تغيرت كثيراً، لكنها لن تشيخ ولن تموت أبداً. 


* المقال من كتاب قيد الإنجاز بعنوان «أيّها الزائر لا توقظ الموتى».

* فنان مسرحي عراقي مقيم في أمستردام.