رواية «حجر السعادة»

ثقافة 2023/03/05
...

 رنيم العامري


كتب أزهر جرجيس في روايته (حجر السعادة) التساؤل التالي: «حروبنا كالسجائر، تشتعل من أعقاب بعضها! خمدت حرب واشتعلت أخرى بلا فواصل، ولا أحد يدري كيف ولماذا! ما زلت أجهل سرّ توقنا للحرب وحرصنا على اقتناء السلاح وحفظه تحت الأسرّة وفي خزائن الثياب. لسنا منحدرين من سلالة الفايكنغ، كما لا نسب يربطنا بهولاكو ولا حتى الساموراي... نحن شعب مسالم، آلهتنا من طين يذوب رقة للمطر، وجدّنا العظيم يبكي كالطفل لفقد صديق ثم يهيم مجنوناً في الفلوات بحثاً عن عشبة الخلود. كان ديننا المحبة وصلاتنا الحراثة، نقدّس النخلة ونربي الحَمام فوق الأسطح، كما نروّض الثيران ونمنحها الأجنحة... فمن أين جاءنا حب الحروب والشوق لسماع طبولها!؟». 

كمال الذي نتتبع حكايته في هذه الرواية، يصف نفسه بأنه مسالم كالدجاج، ومع ذلك فحكايته تبدأ عندما يقف وجهاً لوجه أمام قاتل مأجور!

كان كمال طفلاً ككل الأطفال، فضوليَّاً ويحب ترديد ما يسمعه من الكبار، وغالباً ما أوقعه هذا الطبع في مآزق جمّة، كتلك المرة التي سمع فيها عن «نظرية العاقول» وكرر ما سمعه على معلّمه فنال على إثرها عقاباً شديداً. حمل كمال وهو صغير ذنباً لا ذنب له فيهِ، الأمر الذي دفعه للهرب من منزله في الموصل، لتبدأ رحلة أخرى من العذاب في مدينة بغداد. فَقَدَ كمال أُمّه عندما كان صغيراً، فتزوّج والدُه القاسي من زوجة أقسى منه. عنده أُخت شقيقة (جانيت) وأخ من أبيه (ريمون). عاش كمال في بيتٍ محفوف بالقسوة، تُدمي القلوب فيه مشاهد الضرب التي يجترحها الأب وزوجته بحق طفليه يتيمي الأُم. بعد إحدى حفلات الضرب يقول كمال إنّه شعر بخيط من الكراهية يرتفع بينه وبين أبيه، خيط رفيع كدخان السجائر سيتكاثف مع الأيام ليغدو أثقل من شاهدة قبر على صدره. أبو كمال رجل يصفه صحبه بالأنيس، لأنه لا يقصر في مشاركة رفاقه ساعات الأنس والبهجة، يتساءل كمال: «ما جدوى أن يكون الآباء مبتهجين خارج أسوار المنزل فحسب؟»، ويصف أباه قائلاً: «كان أبي واحداً من أولئك الآباء الذين يخلعون معاطف بهجتهم لدى الباب ليبدلوها بجلاليب الوحشة والنفور والغضب. مع أول خطوة داخل المنزل، مع أول نحنحة، يُصاب مزاجه بالحمى، فيقطب حاجبيه ليغدو شخصاً كئيباً، عبوساً، واجماً، لا طاقة له على احتمال أنفاسه. ثم لا يطيل البقاء معنا لأكثر من ساعتين. كان عاطلاً عن العمل، يخرج في الصباح إلى المقهى، ليعود وقت الظهيرة من أجل تناول طعام الغداء ثم الاستلقاء على السرير لأخذ قيلولة خاطفة، وهي فترة السخط وتعكر المزاج وارتفاع مستوى الحموضة في المعدة».

من شدة تعنيف الأب وإمعانه في ضرب ابنه، يفقد كمال قدرته على النطق السليم ويُصاب بالتأتأة، وقد تركت سخرية الكبار والصغار على حدٍّ سواء من مشكلته في النطق ندوباً لم تندمل إلى الكبر. فما زال كمال الرجل يذكر كيف سخر منه معلّم الرياضيات، لذا كره المعلّم والدرس والرياضيات برمّتها، ولا غرابة في أنه لم يحفظ جدول الضرب إلى يومه هذا. يقول جرجيس -كاتب الرواية- في حوارٍ معه على موقع الجائزة العالمية للرواية العربية البوكر، بمناسبة ترشحه للقائمة الطويلة إن ما ألهمه لكتابة الرواية التي استغرقت كتابتها ثلاثة أعوام «صورة الأطفال وهم يتعرضون لماكينة التنمّر والسخرية، وما ينتج ذلك من أرواح كسيرة ومشوهة». 

رواية (حجر السعادة) الصادرة عن دار الرافدين وصلت إلى القائمة الطويلة للبوكر عام 2022. هذه رواية سلسلة، بلا تعقيدات ولا حيل، حتى أنك لتجد نفسك تمشي مع كمال عندما يهيم في الشوارع، وتشعر معه بالبرد والجوع والخوف والغربة بين الأزقة المظلمة والممطرة، الطفل كمال لا يعرف أسماء الشوارع والأسواق في البداية، لأنَّ بغداد مدينة غريبة على طفل موصلي تائه، لذا لن يسمّيها إلا بعد حينٍ، لكنّك على أية حال ستتعرف عليها من وصفها له -من الوصف البديع للكاتب- حتى لكأن عينيك تبصران شارع الرشيد والعلاوي وسوق الصفارين.

وأزهر جرجيس، العراقي المقيم في النرويج، الروائي والمقالي الساخر، لمن يريد أن يعرف عن أعماله السابقة أكثر، أصدر كتابه الأول (الإرهاب.. الجحيم الدنيوي) عام 2005، ثم (فوق بلاد السواد) عام 2015، ثم رواية (صانع الحلوى) 2017، فرواية (النوم في حقل الكرز) 2019، التي رشّحت أيضاً للبوكر عام 2020، وأخيراً روايته (حجر السعادة)، موضوع مقالنا الحالي.