تساؤلات حول فلسفتنا

ثقافة 2023/03/05
...

 عبد الغفار العطوي 

طالما سئلت من أغلب القرّاء العاديين، أو من أولئك الأقرب إليَّ، الذين يعرفونني ناقداً، ثم باحثاً في النسويَّة (لديَّ 15 إصدارا فيها) عن الأسباب التي دعتني للكتابة في حقل معرفي نقدي انطولوجي شائك مثل الفلسفة!، ويبدو استغرابهم مصحوباً بتساؤل ملح: لِمَ الفلسفة الغربية بالذات؟ وهو يعني إتهاماً مبطناً بأني أغفل أو أتعمد عدم المجيء على ذكر فلسفتنا؟ التي عرفت بالفلسفة العربيّة (نسبة للغة العربية التي كتبت بها في تاريخها القصير نوعاً ما) والإسلاميّة (للمساهمة الفاعلة من قبل الشعوب والمجتمعات التي انضوت تحت لواء الإسلام آنذاك).

يمكن الإجابة عن هذا الشعور الساذج الذي يطلقه الأعم الأغلب من المتوقعين أن تكون من الأكيد أن الفلسفة (فلسفتنا) هي نتاج أصيل بالنسبة لنا، سواء انتمينا للعنصر العربي أم للحاضنة الاسلامية في نسختها التاريخيّة الوسيطة؟ ولأنّهم يعتبرون أن الفلسفة مثل الدين هي عبارة عن نتاج تاريخاني لا ينفد مع نفاد تساؤلاتها، فأولئك يستغربون قيام مشتغلين في عصرنا هذا، في حقل الفلسفة استخدام الفلسفة الغربية في معالجة إشكاليات مجتمعاتنا القومية (التي انسلخت أو تشظت عن العالم الإسلامي الوسيط، بسبب نوع الاختلافات البنيوية في تلك المجتمعات، والتمايزات المعرفيّة التي جعلت تلك المجتمعات تتفرّق بها السبل في صيغ التفكير وأنماط الفهم وطرائق الاستيعاب)، تاركة للدين (الإسلامي) يحتل المساحة المعرفيّة كلها، مع الاختلاف النوعي الشامل بينهما، فالدين يسأل ولا ينتظر الجواب، لكن الفلسفة بالعكس هي تسأل وتجيب في الوقت نفسه عن أسئلتها، بطرائق التبادل الجدلي بين الممارسين لها، بحضور العالم المحفّز لتلك الأسئلة، واللغة التي تصنع التواصل بين الفكر والعالم في وصف الفيلسوف النمساوي المعاصر فتغنشتاين (1889- 1951). 

من هنا وجدنا السؤال عن الأثر الذي جعل الفلسفة لدينا لها موقع تاريخي محدد، وصمتت بعد ذلك التاريخ، لم توقفت فلسفتنا عند حدود معينة، ولم تستطع تجاوزها؟ لا شكّ أن ارتباط الفلسفة عندنا كان بالحدث العظيم الذي ظهر في عام 613 م، أي الإسلام كدين هداية، لكنّه جاء بكتاب موحى بغير العادة في الديانات التي وجدت في الجزيرة العربية وما حولها منذ العصور القديمة حتى عصره، وهذا الكتاب سُمِّي بالقرآن، وهو نزل بلغات العرب (القرشيّة تقريباً هي الأكثر شمولاً واستعمالاً) ليخلق أنساقاً من الإشكاليات والأسئلة، ويثير زوبعة من التساؤلات التي حرص القرآن أن يضعها في ثنايا معرفته التي أعطاها صفة أنّها تبيان لكلِّ شيء، وكان تحدياً للذين يتكلمون العربية حقاً، إلا أنّهم لا يمتلكون المعرفة والقدرة في الإجابة عن تلك الإشكاليات، وليس لهم ردود عن تلك الأسئلة، وظهر القرآن في تصورهم شيئاً خارقاً، لا تكفيهم لغتهم في مجال السجالات التي برهن القرآن على عجزهم في فهمها ومعرفتها، لهذا كانت الحاجة لفلسفة طابعها بشري صرف يصد هذا السيل الإشكالوي الذي روّج له القرآن بوصفه هو عبارة عن معرفة متعالية في محتواها الديني، وتحدث عن أن مصدره المتعالي هو الله، مما سارع في أول تفاعلاته مع الواقع العربي البكر إلى خلخلة في البنيات اللغويّة والمعرفيّة في ذاك الواقع المعيش، لا سيما أن القرآن كان يتجه نحو اطلاق المعرفة الكونية المحررة لمنظور الواقع المحدد إلى فضاءات عالمية غير محدودة، لهذا انبثقت الإرهاصات الفلسفية السريعة (وهي تمهيد لظهور فلسفة بشرية بعد قرنين من القرن الثالث الهجري واستمرت 6 قرون تقريباً) حاملة الطابع الانفعالي لما هو يعني المؤثرات المعرفية الاعتقادية لشعوب مجاورة، ولقرنين كاملين قام السجال بين القرآن وإشكالياته التي  فرضها على الواقع الصحراوي البدوي للعرب، من جهة وجهة ثانية بين أغلب الديانات السابقة على الإسلام كاليهودية والمسيحية والمانوية والزرادشتية.. الخ، فضلاً عن النعرات  الشعبوية الضاغطة على التكوين المعرفي للمنطقة، فأصبحت القدرية والجبرية (الجهمية) الخطوط الأمامية لامتصاص الصدمة المذهلة لما أحدثه الأثر القرآني من سيرورة جدلية في واقع ظل راكداً لحقب، وكان الحسن البصري في البصرة في القرن الأول الهجري قد افتتح الطريق المؤدي نحو التصادم بين القول الإلهي، وبين التكهنات البشريّة التي إدّعت القدرة على الإجابة عن كلّ تلك التساؤلات التي بسطها القرآن. وبدا أن التيار الاعتزالي قد أطلق لنفسه العنان في إزالة مخاوف المسلمين أزاء تلك التساؤلات، فلاح   لقطبي الاعتزال واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد أن يؤسسا  لبنيان معرفي بشري يستوعب الصدمة المعرفية  للقرآن، وبدا أن المعتزلة ومناوئيهم الأشاعرة، ثم الحنابلة قد ملؤوا الفضاء المعرفي العربي الإسلامي بضجيج الحجاج الكلامي في الدفاع عن الرطانة التي افتعلتها الحماس القائم بين الفقهاء والمتكلمين باعتبار المعتزلة أصحاب كلام حاججوا في استطاعتهم في التقريب بين القرآن والمسلمين، وما أن دخل القرن الثالث الهجري كان الإسلام قد أسس لحضارة كونيّة مترامية الأطراف من الأندلس (أسبانيا) إلى حدود الصين بسبب أن الأديان لا تهتم في قيام مجتمعات بقدر عنايتها بالحضارات، لولا حركة الترجمة ودخول الشعوب المغلوبة بحدِّ السيف، في الإسلام التي أظهرت نفائسها الثقافيّة والفلسفيّة، ما شهدنا للفلسفة من وجود، في العصر الوسيط. بيد أن الفلسفة آنذاك قد نسخت من المخزون الإفلاطوني والإفلوطيني والأرسطي، ومن الموروث الفلسفي البيزنطي واليهودي والمسيحي.. الخ. 

من المؤسف أن أغلب من اشتغلوا بها، هم ليسوا عرباً، بل أعاجم (عدا الكندي) مثل الفارابي وابن سينا، ولم تستطع هذه الفلسفة رغم الجهود المبذولة من قبل فلاسفتها إيقاف العزلة المعرفيّة التي أسهم الإسلام في فرضها عليها، لذا ظهرت غريبة وذهبت غريبة، ولم تتجاوز عتبة الخاصة من المشتغلين فيها، لا سيما أنها لم تخلق لها أصالة، وبقيت تتجنّب العوم في بحر الحضارة الإسلامية المتلاطم الذي أحكمت عليه قبضة الاستبداد السياسي والديني والطائفي، هي لم تكن فلسفة بمعنى الكلمة، إنّما كانت اجتهادات عقيمة في عنانها الإفلاطوني الخالص لحضارة الإسلام، ولما سقطت الحضارة الإسلامية قضت الفلسفة أنفاسها الأخيرة، لقد انزوت في أقبية المعاهد الدينية بجميع  طوائفها، تسد منافذ الخلل المنطقي والمنهجي في الدراسات الدينية. 

الفلسفة الغربية تختلف، اليوم هي قد نجحت في الاستقلال المنهجي بعد تاريخها الطويل العصيب، ابتعدت كثيراً عن الدين واحتكاره للحقيقة المطلقة بنقدها للجزء المعوق في حقولها الميتافيزيقا، وطرحت أوجها مغايرة في نظرية المعرفة، في الأساس الأبستمولوجي للعلوم التي جعلت من وجودها الريادي في أن تصبح الفلسفة علماً، بعد التطور الهائل للفلسفة العلمية، لذا فالذي يريد أن يفهم المعارف والثقافات في عصرنا كيف غدت، وماذا تفعل عليه بالفلسفة بحلّتها

الغربية؟.