الآلهة عطشى

ثقافة 2023/03/06
...

 ياسين طه حافظ


واضح للكثيرين أن العنوان يذكر برواية للكاتب الفرنسي اناتول فرانس «الآلهة عطشى» والآلهة عطشى تتحدث، ضمن أهم ما تحدثت عنه، عن المفاسد والشرور والمكائد التي تصحب فوران الولاءات والتي لحقت بالثورة الفرنسية وتخللتها وصحبتها وصولا إلى روبسبير!، الأسف أن هذه الرواية لم تصدر ترجمتها عن الفرنسية بطبعة جيدة، ولا حظيت ترجمتها بجهد أفضل، وأن  كنا نشكر مترجمها على ما قدم وعلى الريادة في  ترجمتها والتعريف بها.


معروف أن اناتول فرانس صاحب أسلوب متفرد، وأنه يقول شعراً حينما يروي قصة أو مسرحية أو حديثاً.

ويحسم ثناءنا عليه القول بأنه واحد من أصحاب الأساليب الواضحين في الأدب الفرنسي.

لكني هنا لا أتحدث عن فنه، ولا عن فلسفته، ولا عن موقعه بين مجايليه. 

أتحدث عن مسألة تخصنا جميعا، مثقفين وأناساً بسطاء، قراء عاديين واساتذة متخصصين.

أتحدث تحديداً عما يربك حياتنا على أمل الوصول إلى ما هو أفضل، وعما يثير ويحرف حتى من تحضّر وتهذب فيهيج شراساته، ماحقاً إنسانيته تلك التي صقلتها الأزمنة، ليعود، في الأجواء العاصفة المضطربة وفرط الحماسات، إنساناً متخلفاً شرساً ولا إنسانياً مرة أخرى.

وهو هذا تماماً ما شهدته الثورات والانقلابات من أولئك «الهائجين» شديدي وشرسي الاندفاع، ضد المخالفين ومن يكرهون.

وكأن الثورة افتقاد الرشد وأنها الخبل حتى شفاء الغليل. 

وهنا لا تبقى أمام أمثال أولئك المتعطشين بجنون، مدنيةُ ولا قيم ولا جمال حضارة، ولا لطف إنساني، ولا حتى كراهة سوء ومنكر، وهو عرف اجتماعي ورسالة دين.

الآلهة عطشى رواية تبدو عن الثورة الفرنسية نعم، اشتباك وسقوط القيم حين ينفلت الإنسان مالكاً حريته ويحوز سلاحاً وجاهاً أو سلطاناً وحين يتمكن من الهيمنة والقمع.

وعلى أهمية هذه المسألة والأسى الذي تخلفه ومعاناة الكثيرين منها، فليست هي وحدها التي استهدفتُ حين بدأت الكتابة، نحن في الأرض  نبحث عن أمل، عن حل، عمّا يمكنّنا من العيش وسط المنغصات أو الأذى. 

لنتحدث قليلاً عن العنوان، لماذا الآلهة عطشى، وعطشى لما؟

واضح، وهو أول ما يخطر  للقارئ، أنها عطشى للدم البشري، وأنها تريد قتلاَ وفتكاً وانتقاماً وارتواءَ من غليان انتقام أو قل تريد راحة مما تكدّس في الصدور من غيظ!

إلى هنا لا تكون قراءتي للرواية منصفة ولا كاملة فهي عطشى لا للدم فحسب، ولكنها عطشى للحب أيضاً وهنا في رأيي، عظمة اناتول فرانس وهنا امتياز الرواية، وهنا أيضاً نمتلك أدباً ناضجاً وشخصيات إنسانية تمثل الإنسانية كلها لا الشواذ وحدهم

منها.

يوجد مجرمون ولكن يوجد عشاق عظام ايضاَ.

يوجد قتلى رصاص ويوجد قتلى أو شهداء حب، وقتلى غيرة وقتلى خطأ وسوء فهم، ويوجد أيضا منقذون!

مهما عددنا من أسباب الاثارة، من ثم أسباب القتل، صعب أن ننسى فعلاً مؤذياَ يتكرر، من أفعال الاضطهاد الاجتماعي الفردي أو السياسي العام وأضرارها باجساد وضمائر وظروف عيش الآخرين وعلى مدى عقود. 

الجذر الأسود السام لتلك الشرور  يكاد يكون واحداً وفي جميع العصور.

ولكننا هنا لا نسوّغ الجريمة ولا نجد لها عذراً، نبقى نرى ونألم للإنسان حياً يعيش بنكد يومي. 

نتحدث عن خسران الناس لنقائهم وحين يقل الخير بدلاً من التضامن على الخلاص وتحرير الجميع من السخط المكبوت والانتقام المرجأ وتوحش الحاجة للمحق.. هو رد فعل آخر كريم نريد حضوره ليصد هجوم الشر على الإنسانية والحضارة والعالم، فلا نخسر القيم التي بالكاد حققتها البشرية وبعد كوارث نعرف بعضها ونجهل الكثير.

نريد أبعاد العطشى من البشر أو من المتسلطين الذين قد يكون اسمهم الآلهة، كما في الرواية.

نحن لا ننتظر اختفاء الشر من الأرض، الشر يستمر والأرض كما اعتدنا ولحدّ ما ستبقى.

ولكننا لن تسعدنا بعد الدماء ولا ترضي ثقافتنا الشراسات الوحشية.

فلا غرابة من  ذكاء ورهافة ضمير اناتول فرانس حين يوجع قلوبنا بما كان يفرح الاشرار  والمتوحشين يوماَ:

(( في ذلك اليوم صعد المنبر بتؤدة شاب أنيق هادئ ناعم الوجه، وقد ارتدى حلةً زرقاء ابرزت امتشاق قوامه، وبدأ في دقة حركته واتساق قسماته اشبه باستاذ للرقص لكنه كان استاذاً في القتل والتخطيط للقمع والاكتساح))!

 وعلى العكس من هذا التحول الشنيع هنالك ما يخفف من البؤس البشري وشناعات افعال الناس إذا رفعت عنهم السطوة او امتلكوها تظل هناك دائماً امثلة للخير والبراءة والحكمة وهناك دائما طيبون يبتعدون عن الصخب حزاني، آملين بالهدوء وبعودة الرشد.

فهم يحيون في سكينة وان بحذر، وينتظرون انتصار الحكمة وعودتها للحياة.

ومما يغني هذه الرواية ويُكبِر اناتول فرانس  ويريح الناس، أن قصص الحب لا تفارق فصول الرواية. 

هو يترك فسحة نقية الهواء للنفس البشرية  لكي تتنفس حرةً، لكي لا تختنق باخبار المكائد واخبار الفساد والقتل وصور الابرياء يودعوننا الى المقصلة أو الى الامتهان. 

قصص الحب هي المنقذ من فداحة الشر.

والعواطف وان كانت حذرة وهمساً، هي كل ما يبقى ليمنح لطفاً ويواجه طاغوتاً له مثل هذا الصوت وهذا الكلام: (( أيتها الجمهورية ليس لك سوى منفذ واحد من كثرة الأعداء،  المستترين منهم والظاهرين/ فانقذي الوطن أيتها المقصلة!)) أين هذا من كلام الحب؟

يبقى الحب في كل البدايات وإلى خواتم القصص. 

يبقى مستتراً، مهدداً، جريئاً وحذراً، لكنه يبقى في كل معمعان الحياة ومع الحكمة حتى آخر الفصول.

على حراجة ظرفه، يظل الحب، قدر استطاعته، يصد الكراهات، يخفف، يثلم اندفاعاتها. 

واليكم الآن هذا الكلام الذي يقطر أسى، ولكن  بعد فوات الأوان، ليت الحكمة كانت اكثر سرعةً للحضور:  قال الأب لونجمان: ( سامحني ياسيدي إذا كنت اشدك من قدميك الى السرير، لن اعود الى ذلك ثانيةً) وتحول هذا الى بروتو

قائلاً: « وداعاً، فاني اسبقك الى العدم واردّ للطبيعة، راضياَ، العناصر التي تكونني آملاً ان تحسن استعمالها في المستقبل ، إذ لابد من الاعتراف بانها لم توفق في

تكويني ....}

قال ذلك ونزل شاحباً إلى الهاوية ...»