فلسفة الشك

ثقافة 2023/03/06
...

 سناء باهي


تواضع الإنسان واعتاد على طلب اليقين، لأن طبيعة الحياة يعسر أن تستقيم بمبعدة عن البديهيات والضروريات، لكن مبالغة الإنسان في قصد اليقين في كل جزئية جعله يجرِّمُ الشك ويجعله في لائحة التهم! باعتبار الشك بمنزلة المزعزع للاستقرار والتوازن في الوجود كله. 


  والشك كموضوع شائك عالجته الأديان والفلسفة، بين معتبر للشك سبيل الضلال وبين من يصوره أنه مرتبة من مراتب الإدراك

الإنسان. 

ومحل الإشكال ليس في الإبانة عن موقف الدين من الشك إنما الذي يقتضيه واجب المعرفة هو التساؤل عن السبب الذي جعل الأديان تتهم الشك! وإن كان المقام يصعب استقصاؤه، لكن إذا ضاقت العبارات اتسعت الإشارات! وأنا أرى أنه لا يعيب الدين أن يحظر ثقافة الشك! لأن طبيعة المعارف الشرعية الدينية لا تستقر في نفوس إلا تبعا للتسليم! والإسلام من اسمه محمول على وجوب الاستسلام والخضوع من غير اعتراض! ولا شك أن من ألف الاستسلام فإنه سيعلن العداء لكل ثورة تفسده عليه مسلماته أولها الشك. 

ومشكلة الشك أنه لا ينقرض، فإنه وإن ضاق في أجواء اليقين فلا يعلن انسحابه، بل يبقى في العقل كرواسب موسوسة، ومن ثم فالمؤمن المتيقن إن تسرب إليه شيء من الشك في الغالب قد يرتد على عقبيه وهو ما يعبر عنه جورج طرابيشي (من النهضة إلى الردة)، أي أن من ألف اليقين لن يحسن يوما التعامل مع الشك يؤول أمره إلى الخروج عن الدائرة! وهذا ما أكده نيتشه وهو يعالج فكرة الشك في علاقتها مع الأديان وخلص إلى أن الدين (هو أن تخسر عقلك لكسب اليقين وإن كان متوهما). 

ومن ثم كان على الأديان أن لا تغفل الشك لأنه مما يعرض على العاقل ويعتريه في كل لحظة! وفي مواطن قد تكثر اعتراضات الشك على المتدين أكثر من عوارض اليقين لكن العقل الجمعي - بتعبير دوركايم- سيمنعه من تقبل الشك كأصل في الوجود، بل سيحاكمه ويخرجه من دائرة الطائفة الناجية! وهنا لفتة أحببت ايرادها وهي أن كل شيطان ورد في الكتب المقدسة فهو إما عقل أو شك. 

أما الشك في الفلسفة فهو رأس الفكر، باعتباره الضامن لصلاحية المعارف، بل الذي جعل الفلسفة في منزلة (أم العلوم) هو اعتناؤها بالشك أكثر من الجواب، لأن الشك هو مجال إعمال الفكر والنظر، أما الجواب فلا يفرح به إلا عاجز عن التفكير، أما الذي يحترم عقله فهو من يورد عليه شكوكات ويجعله في حيرة دائمة. 

وأقدم مذهب في الشك هو مذهب السوفسطائين الذي كان يصور اليقين أنه كسل معرفي! وأن اليقين دخيل على الطبيعة البشرية لأن الأصل هو الشك واليقين عارض! وهذه من المقاربات التي أحدثت قطيعة بين الدين والفلسفة ردحاً من الزمن لأن ما تعتبره الأديان مهددا الوجود البشري وهو الشك، يعتبره العلم والفلسفة أصلا في التقدم البشري. 

وآخر ما أختم به أن انتشار الفكر الإلحادي في العالم العربي ما هو إلا ردة فعل قوية على اليقين الموهوم في التاريخ! واليقين منحت له فرصة في التاريخ تأكد أنه ليس الحل دائما! لكن لما اتسعت دائرة العلم والفلسفة بان أن الشك بريء واليقين هو الأول بالاتهام! والسؤال هو! كيف يمكن إعادة تشكيل العقل العربي حتى يحسن توظيف الشك كما كان يوظف اليقين!