ألف مهرجانٍ لشاعرٍ مُصَمَّتْ

ثقافة 2023/03/06
...

 محمد حاذور


برواية الأخضر بن يوسف: «قد لا يعرف الكثيرون أن سركون بولص كان يطوِّفُ مع فريقٍ، لإلقاء الشعر في البلدات الأميركية والقرى...»

حدث، قبل خمس سنوات من الآن، كنتُ آنذاك، أميناً لدار ومكتبة شهريار في عشّار البصرة، بالتقابل والتجاور من مقهى الأدباء، أنْ عرض علي، الشاعر عين. نون. (استخدم مفردة الشاعر بصيغة الانتساب فحسب) أن أشير له فحسب، إذا شئت القراءة في أي مهرجان أرغب الحضور فيه. كأنه، فتح، كتالوغاً بالمهرجانات لأختار ما يناسبني، ولا يقتصر هذا العرض الدسم على مهرجانات البصرة فحسب، إنما كل المهرجانات التي، يحظى عين. نون. بعلاقة مع مسؤوليها. 

ولشاعر مثلي، ما زال يتهجى طريقه، ينبغي أن يستغل هذا العرض أفضل استغلال ممكن. 

فما كان مني استجابة، الرفض، بالطبع.

عليك، إذن، أيها الشاعر، لأن تكون لك حظوة في النشاطات والمهرجانات المعنية بالشعر، لا أن تعمل على نسج وحبك جملتك وصقلها، لكي تكون تلك الجملة، جوازك الذي يسافر المحطات قبلك، إنما السعي لكسب الوجوه والأشكال والعلاقات، دون الالتفات إلى ما تنطوي على معنى، فمعرفة “الجوهر الخفيف المجنح المقدس”. 

تتعارض بالمطلق مع المهرجانات المتهافتة الرخيصة.

 هكذا هو المنهج المتبع في المهرجانات الشعرية العراقية، أن يسعى الشاعر، لتكوين دائرة من العلاقات تضمن له الحضور شبه الدائم في الفعاليات الأدبية. 

تُدار إذن، النشاطات الشعرية، بمعية عصابات تسير بالأنشطة المعرفية، بأساليب قبلية/ عشائرية بحتة: كل عصابة، تحتكر لنفسها مهرجاناً وتسيطر عليه.

والمتابع للمشهد السياسي المسيطر عليه مجموعة من الأحزاب، سيجد التشابه الكبير بين إدارة المهرجانات بقضها وقضيضها والوضع السياسي الفاشل بامتياز.

فضلاً عن ما تقدم، ثمة ظاهرة غير صحية وغير شعرية، ألا وهي، كثرة المهرجانات الشعرية التي تفتقد للمشهد الشعري بصورة مبالغ فيها: منذ بداية الاحتلال الأميركي للعراق، وبصورة تدريجية، انحسر المشهد الشعري في الفعاليات الشعرية، لأن يحل محله مهرجانات اللقاء بالأصدقاء والصديقات فحسب.

إذن، غاب الشعر عن أمكنته لتأتي العصابات للتّفكّه والتمتع بامتيازاتها.

هذه الظاهرة، مادة دسمة لأن تكون على طاولة الدراسات المعنية بالأدب الحديث وينبغي الالتفات إليها وتسليط الضوء عليها.

 ينبغي إذن، أن تكون الظاهرة الشعرية، صحية وممتازة وفاعلة، قياساً بكثرة المهرجانات والنشاطات المنهمكة بالشعر والمعنية به.

لكن الزيادة كالنقصان: يطوف الشعراء من مدينة إلى أخرى ومن مهرجان إلى آخر، وكأن الشاعر لا هم له سوى التواجد بالمحافل، وهذا مؤشر في غاية الخطورة: تم تفريغ الشاعر من معناه ومَهمّته ودوره، لأن يكون طبلاً مجوفاً يردد صدى محيطه دون أن يدرك ما جنى به على نفسه، وتحويله إلى بيدق عبر ربطه بمجاميع وعصابات متخادمة فيما بينها، لم تساهم بأي تغيير ولو بشكل طفيف، طوال العقدين الأخيرين.

بالإضافة إلى ذلك، لا يبق للشاعر مساحة لممارسة داخلية مع نفسه وقصيدته، عليه أن يبقى متشبثاً بحافلة الشعراء المتجولين بين المدن والمهرجانات، فهذا هو وجودهم وهنا تتمثل ذواتهم: الحضور في النشاطات وإثارة الزوابع والصراخ من على المنصات وانتظار الدريهمات. 

وتكاد تكون هذه النشاطات، أداة تسيطر عليها السلطة وأحزابها ورجالاتها.

بمعنى، أن الأديب الذي ينبغي أن يكون أناركياً لا يخضع ولا يخنع، سواء أدرك أم لا، أن هذه الفعاليات تتم بمباركة السلطان ومن جيبه يتم تكريم الأدباء.

إن التجمعات المشار إليها أو العصابات التي تحتكر أغلب المناسبات لمن ينتمي إليها ويتخندق معها، أشبه بالخط الأول من فرق كرة القدم: مجموعة من الشعراء (أكرر، هذه “الشعراء” استخدمها للانتساب فحسب) تجدهم يحضرون في أغلب إن لم يكن كل النشاطات، مع تبديل وتغيير طفيفين لبعض الأسماء. 

كأن الأديب، يفعل ما يستطع وما لا يستطيع من أجل كسب فرصة للظهور، وكأن المنصة، صك القبول وجواز إثبات الوجود. مع هؤلاء “الطبول الفارغة، غاب الشعر. لكن، على النقيض من كل ما تقدم، ثمة فئة منحسرة وقليلة، مغيبة ومتغيبة، عن هذه التسابقات الفحطانة المتهافتة. تلك الفئة، تنتصر للشعر واغترابه.