{السقا مات}.. إشكاليَّة الموت والخوف منه

ثقافة 2023/03/06
...

علي حمود الحسن

تحرصُ صفحة "سينما" على التذكير بأفلام كلاسيكيَّة عراقيَّة وعربيَّة، شكّلت علامة فارقة من جهة محمومها الفني والفكري، واحدٌ من هذه الأفلام "السقا مات" (1977) لصلاح ابو سيف، الذي يعدُّ الاكثر رعباً وكآبة وإثارة لأسئلة غالباً ما نتحاشى طرحها، حتى في أشد لحظات حياتنا اندحارا ونكوصا، بتناوله فلسفيا إشكالية الموت والخوف منه، وهو مقتبسٌ من رواية بالاسم ذاته ليوسف السباعي، كتب السيناريو له  محسن زايد، ومثل فيه:  فريد شوقي، وعزت العلايلي، وأمينة رزق، وتحية كاريوكا، وأدار تصويره محمود سابو، وانتجه يوسف شاهين.

تدور أحداث الفيلم في النصف الثاني من القرن العشرين، وتحكي  قصته الحياة الحزينة، التي يعيشها المعلم شوشة (عزت العلايلي) السقا الشهم   المحبوب من الجميع وتتمناه نساء الحارة، والذي فقد زوجته آمنة (ناهد يسري)، أثناء ولادتها ابنه سيد (الطفل شريف صلاح الدين)، فيعتزل الدنيا وما فيها ويلتجأ الى الصبر واستذكار أيامه السعيدات مع امنة التي زرع لها شجرة "تمر حنة"، وسط حديقة السراي الكبيرة التي كانت تخدم فيها، ويواظب هو وابنه على سقيها، لم يحتمل وقع موتها، فينتابه حزن عظيم، يعاف الدنيا وما فيها، ويحنو على تربية ابنه سيد بمعاونة أم آمنة (امينة رزق)، يتعرف بمحض الصدفة على المعلم شحاته (فريد شوقي) في مطعم الحارة، اذ أنقذه من فضيحة الخروج عاريا بعد أن بالغ في التهام مفردات "الباجة " واعتقد أنه كسب ود الحاجة زمزم صاحبة المطعم المتصابية (تحية كاريوكا)  " فأوغل في الأكل بلا رحمة، على الرغم أنه لا يحتكم على " مليم"، وكادت المعلمة الشرسة أن تعصف به وتخرجه من المطعم كما خلقه ربه، لولا تدخل شوشة، لتبدأ صداقة تغير حياته الكئيبة الى رحاب البهجة والحبور، فشحاته مطيباتي جنائز، لكنه يمتلك فلسفة حسية مقبلة على الحياة لا يخاف الموت، بل يسخر منه، فيعيش شحاته أسعد أيامه برفقة هذا الحانوتي الطروب، لكن شحاته يموت وهو يستعد لأجمل ليلة في عمره (لقاء بنت الهوى عزيزة التي ترمز للدنيا، فينكص سيد من جديد ويهيم في المقبرة، مرتديًا ملايس المطيباتي تكريما لصديقه، ثم ينتهي به الامر  شيخا للسقائين، ليظل لغز الموت عصيا على الفهم، قدم الممثلون جميعا أداء مبهرا، تحت قيادة المخرج الكبير ابو سيف، خصوصا عزت العلايلي وفريد شوقي والطفل الصغير شريف صلاح الدين، حتى يمكن وصف مشاهد دفن شحاته وهروب المعلم شوشة، هائما في أروقة المقبرة بأعمدتها الشاهقة وجدرانها الضخمة، التي هي أقرب الى المتاهة، صارخا معترضا على فعل الموت ومتحديا له، في مشهد مخيف ومرعب، وقد نجح باسو بابتكار كادرات مؤثرة توحي بضالة الانسان إزاء اللامتناهي، اذ نرى شوشة يصرخ بغضب مشوب بخوف وعجز، داعيا الموت الى منازلة، وحينما لا يجد غير صداه يصرخ ثانية "جبان .. انا هنا لِماذا لا تأتي لي"، اعترضت الرقابة على هذا المشهد وقد تمَّ تلافي ذلك بسقوط شوشة متهالكا قانطا، فياتي صوت الآذان ليعيد الثقة إليه، فتدب الحياة فيه ويشرع في الصلاة.