تاريخ موجز لفن البورتريه

ثقافة 2023/03/07
...

 كريستينا كارميل

 ترجمة: مظفر لامي


منذ وجد الرسم، وجد فن البورتريه (رسم ونحت الأشخاص) الذي يعود تاريخه، كما يذهب الرأي السائد، إلى ما لا يقل عن 5000 عام في الحضارة المصريَّة، على الرغم من أن العديد من الشعوب القديمة كانت قد مارست هذا الفن. ورسم اللوحات ليس الطريقة الوحيدة التي تمكن بها الفنانون من تجسيد الأشخاص، فالنحت والصور والتخطيطات، تندرج أيضاً ضمن هذا الفن، ما دام الهدف منها، إعطاء وصفٍ لتعابير وشبه ومزاج شخص معين. ومجموعة التماثيل التي يطلق عليها (تماثيل ﮔوديا) تعد من أقدم النماذج لفن البورتريه بسبب السمات المتشابهة التي تمثل هيئة حاكم "لكش" الذي حملت التماثيل اسمه. 

في بومبي حفظت الحمم البركانية والرماد، لما يقارب 2000 عام، جداريات رسمت عليها صور شخصية، تبرز من بينها اللوحة الشهيرة التي تحمل اسم (تيرنتيوس نيو وزوجته) التي يظهر فيها الرجل حاملاً لفافة وزوجته تمسك بلوح دلالة على مكانتهم الاجتماعية والتعليمية. وقد اختلف المؤرخون المعاصرون حول مهنة تيرنتيوس، إذ يزعم البعض أنّه طالب قانون بينما يرى المخالفون أنّه كان خبازاً. 

وخلال عصر النهضة والعصور الوسطى، بدأ فن البورتريه يأخذ شكلاً جديداً، انتهج فيه الفنانون أسلوبا أقل تجسيداً، واستعاضوا عن الملامح شديدة الواقعيَّة بصور لأشخاص يحملون تعبيرات وجه نمطيَّة بخلفيات مسطحة. 

مع حلول عام 1503، أحدث ليوناردو دافينشي انعطافة جديدة، بلوحته الشهيرة الموناليزا، أيقونة فن البورتريه في تاريخ الفن الحديث، التي استخدم فيها تقنية مختلفة عن تلك التي عُرِفَ بها فنانو زمانه، إذ استبدل الخطوط الواقعيّة الحادّة بضربات فرشاة تمتزج فيها الألوان بنعومة. وهذه اللوحة الرائعة، بما تحمله من سمات ملفتة، تتمثل في الابتسامة المرحة والعيون المعبرة، ربما تكون قد حصلت على شهرتها العريضة بسبب السرقة الشائنة التي تعرضت لها في عام 1911، وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ الأثرياء وذوي المكانة والسلطة، هم فقط من كانوا قادرين على تحمل تكلفة لوحة البورتريه في تلك الحقبة بسبب صعوبة الحصول على الدهانات والقماش الملائم، وكان لا بدَّ من صنعها من قبل المتدرّبين في مشاغل الرسامين. وهذا الحال بقي سائدا حتى بدأ الإنتاج الكبير في لوازم الرسم مع قدوم الثورة الصناعيّة، الأمر الذي مكّن أسر الطبقة الوسطى، للمرة الأولى، من تعلّم فن الرسم وشراء لوازمه. تبع ذلك، ظهور حركة الواقعية الاجتماعية التي كانت تضم رسامين فرنسيين مثل كوستاف كوربيه وأونوريه دوميه، التي نتج عنها لوحات صورت شخصيات من الطبقة الوسطى والعاملة للمرة الأولى. وفي ذات الحقبة، بدأ الفنانون الانطباعيون وما بعد الانطباعيين بالتجديد في فن البورتريه وتجاوز محدداته الفنيَّة. وربما كان الفنانان فنسنت فان كوخ وبول ﮔوﮔان الأكثر ثوريَّة بينهم بما أنتجاه من صور شخصية، في أواخر القرن التاسع عشر، فقد أتت مختلفة بشكل صادم عن أي لوحات شخصية تم إنشاؤها من قبل.

بدأ الفنانون لاحقاً، باستكشاف دخيلة الشخصيات التي يقومون برسمها أكثر من تركيز اهتمامهم على ملامح وتعبيرات الوجه. ومن خلال ذلك، برز فن البورتريه كرحلة استكشافية في عوالم النفس البشريَّة، نجد تجلياتها واضحة في أعمال بيكاسو وماتيس اللذين تعاملا مع الألوان والخطوط والأشكال كما لم يفعل أحد من قبل.

في منتصف القرن العشرين، بدأ فن البورتريه يفقد شعبيته، فاسحاً المجال للفنون التجريديَّة والتصوريَّة، لكن قدوم الستينيات، تزامن مع إعادة فنانين مثل إنديوار هول و روي ليشتنشتاين لوحات الصور الشخصيَّة إلى دائرة الضوء من خلال فن البوب. الذي بدأ كتمرّدٍ ضد المقاربات السائدة في الفن والثقافة، وتعبيراً عن القطيعة التي وجدها هؤلاء الفنانون ماثلة بين ما تعلّموه في مدارس الفنون وما شاهدوه في المتاحف، وبين حياتهم اليوميَّة، مما جعلهم يلجئون إلى مصادر مثل أفلام هوليوود والإعلانات ومغلّفات المنتجات وموسيقى البوب والكتب المصورة، كموضوعات للوحاتهم.

أما في عصرنا الراهن، الذي نولي فيه أهمية كبيرة لهواتفنا المحمولة، فربما يكون شكل فن البورتريه الذي نمارسه على نطاق واسع، هو فن السيلفي. ويبدو أنّنا أصبحنا جميعاً فنانين خبراء في مجال التصوير، نلتقط صوراً لأنفسنا ولمن نحب في أماكن ومواقف متنوعة. أما في عالم الفن، فما زال فن البورتريه يجد رواجا كبيرا بين الفنانين وتستحدث فيه نماذج وأساليب مختلفة.