رِحْلَةُ دوستويفسكي إلى القُدْسِ

ثقافة 2023/03/07
...

 مهند الكوفي 

تخبرنا آنا دوستويفسكيا زوجة فيودور دوستويفسكي (1821 ـــ 1881)،‏ الكثير عن حالات اليأس والتشاؤم التي مرَّ بها كبير أدبائهم. كتبت آنا في مذكراتها عن الوضع النفسي لفيودور، فقد رجح كفة الذهاب إلى القدس على فكرة الزواج للمرة الثانية، بين ذين وذين تخلى أخيرا عن فكرة الزواج، وخاطب اتحاد الأدباء لتسهيل إجراءات سفره إلى الشرق الأدنى. فقد عثرت آنا بين أوراقه فيما بعد على رسالة مؤرخة في 3 - 6 - 1863 من رئيس اتحاد الأدباء الروس آنذاك إلى القنصل الروسي في القسطنطينية لتسهيل أمر رحيله، وسألني في هذا الخيار الذي كان سيغير مجرى حياته التعيسة تغييراً جذرياً”.

زيارة القدس كانت من بين اللحظات الرائعة التي عاشها الكاتب الروسي فيودور ديستويفسكي. بالرغم من أن زيارته للقدس لم تكن طويلة، إلا أنها كانت حاسمة في تشكيل رؤيته للعالم والدين. في صيف عام 1862، أقلع ديستويفسكي في رحلة إلى الأراضي المقدسة. وقد جاءت هذه الرحلة بعد أن أصيب الكاتب بأزمة نفسية، وكان يبحث عن السلوى والانتعاش. لذا، فقد استطاع استغلال هذه الرحلة لتعزيز فهمه للإنسانية والدين. وصل ديستويفسكي إلى القدس بعد عدة محطات في مصر وفلسطين، وقد شعر بالدهشة والإعجاب بالطبيعة العربية والمعابد الدينية المختلفة. لكن اللحظة الحاسمة في هذه الزيارة كانت، عندما دخل الكاتدرائية المسيحية في القدس، وشاهد الصليب المعلق على الحائط وقد وصف ديستويفسكي هذه اللحظة في كتابه “روسيا الإسلامية” قائلاً: “أردت الهتف، أردت أن أصرخ بأعلى صوتي، ها هو إلهنا الذي يتحدث من خلال الصليب، ها هو الإله الذي يجب أن نعترف به ونسعى للوصول إليه”. بعد زيارته هذه، عاد إلى روسيا، حيث كتب عدة مقالات عن الدين والإنسانية والتي تأثر بها خلال زيارته للأراضي المقدسة. ومن أهم هذه الأعمال: “الإخوة كارامازف” الذي يناقش القضايا الدينيَّة والفلسفيَّة.

في كتابه الذي لم يُنشر “روسيا الإسلامية” يستشف العلاقة بين الإسلام والحضارة الروسيَّة. يتحدث الكتاب عن تجربة دوستويفسكي في زيارة القدس والشيشان التي كانت تحت حكم الإمبراطورية الروسية في القرن التاسع عشر. خلال هذه الزيارة، استطاع دوستويفسكي الاطلاع على ثقافة وتقاليد المسلمين في المنطقة.

يقوم الكاتب بتناول قضايا حيوية مثل الجهل والفقر والأمراض في المجتمع الإسلامي والتي كانت تؤثر في حياة الناس. 

ومن خلال الوصف الدقيق لهذه المشاهد، يعطي دوستويفسكي للقارئ فهمًا أفضل للحضارة الإسلامية والعلاقة التي تربطها بالحضارة الروسيَّة.ويتحدث الكاتب أيضًا عن موضوعة الإيمان والدين في الحياة الإسلامية، وكيف يتم تفسير الإسلام وتطبيقه على الحياة اليومية. ويعرض دوستويفسكي بعض النماذج البسيطة والرمزية للعلاقة بين الإيمان والحياة.

كما يعطي دوستويفسكي فهمًا أفضل للعالم الإسلامي وتاريخه وثقافته. ويعرض رؤية جديدة للحضارة الروسية ويساعد على فهم العلاقة بين الشرق والغرب. وعلى الرغم من أن الكتاب كان في القرن التاسع عشر، إلا أنه يظل موضوعًا حيويًا ومهمًا حتى في الوقت الحاضر.

تناول ديستويفسكي في مذكراته الخاصة بالرحلة وصفاً مفصلاً لمدى إعجابه بمدينة القدس وأهلها، حيث وصف المدينة بأنّها “جميلة حتى الذهول، مزينة بأطلال كنائس وأقبية وآثار دينية وتاريخية تشهد على الماضي العريق لهذه المدينة”.  منذهلًا من أحياء وشوارع المدينة التاريخية والأسواق التقليدية.

بالنسبة للعرب، أبدى ديستويفسكي إعجابه بالثقافة والتقاليد العربية، ووصف العرب بأنّهم “أشخاص ذو نفوس عالية ومتفهمون جيداً لقيم الحياة”. 

وعلاوة على ذلك، تحدث ديستويفسكي عن احترامه الشديد للدين الإسلامي، ووصف المسجد الأقصى بأنه “مبنى عظيم وجميل ويحمل في طياته قيمة دينية وتاريخية عظيمة”. 

بهذا الشكل، يبدو أن ديستويفسكي قد أثرى المشهد الثقافي برؤيته الواسعة وتجربته الفريدة في الشرق الأوسط، ولا تزال أعماله الأدبية تستمر في التأثير على الأدب والفن في العالم ليومنا هذا.