أسطورة الحياة الأزليَّة

ثقافة 2023/03/07
...

 ناجح المعموري

تلتقي النصوص الأسطوريَّة وحصراً أغاني الحب السومريَّة بخاصيَّة الانفتاح على الجنس، لا باعتباره فعلا لذيَّاً فقط، وإنما لكونه عنصراً تقوم الحياة وتستند إليه كلية الطبيعة والكون. ويأخذ النظام السياسي/ الديني/ الاجتماعي تكرسه وتمركزه وهيبته، من ديمومة الاتصال الجنسي المقدس، والذي تمارسه الآلهة جميعاً وبمستويات متنوعة.

الأرض الفسيحة المسطحة لبست تآلقها 

جملت ببهجة جسدها 

الأرض العريضة بالمعدن الثمين اللازورد 

زيّنت جسدها 

تبرّجت بالينع والعقيق الأحمر البرّاق 

زيّنت السماء رأسها بأوراق الشجر 

وظهرت، وكأنّها الأميرة 

الأرض المقدّسة العذراء تبرّجت 

من أجل السماء المقدّسة

السماء، الإله الرائع الجمال، غرس 

في الأرض العريضة ركبته 

وسكب في رحمها، بذرة الأبطال 

الأشجار والمقاصب

الأرض الطريَّة، البقرة الخصبة تشبّعت 

بمني السماء الغني 

وبالفرح ولدت الأرض نباتات الحياة

وبغزارة حملت الأرض هذا التاج الرائع 

وجعلت الخمر والعسل يسيلان.

 يقدم هذا النص، الإله آنو زوجاً إلهيّاً يمارس اتصاله مع الأم الكبرى/ الأرض، ينحني راكباً عليها وتغوّص ركبتاه في التراب الرطب. والأدب السومري يتمركز حول هذه الظاهرة الفنيّة والدينيّة الفريدة لأنّه منحها وجوداً وبقاء، وتعبر عن شكل أرقى في فهم الحياة ووعيها والتعامل معها. لذا لا بدَّ لكل قارئ أن يعيد النصوص التوراتيّة إلى الحاضنة السومريّة، التي انتجتها وغذتها ودفعت بها نحو الديانات الأخرى.

  عناصر الالهة انانا/ عشتار المعروفة بها هي “عصا الرعية/ عصا القدرات/ الصولجان، “الجنس” كلها تمثل قوة انانا/ عشتار وسلطانها وهي ايضاً - العلامات الدالة على إلوهتها المؤنثة، وهي انانا المختصة بتقديمها هدية للإلهة والملوك الذين تختارهم، لإقامة الزواج الإلهي وهي ليست كاسرائيل/ معشوقة يهوه.  وانانا/ عشتار مختلفة عن معشوقة يهوه. فلها اختيارها الإلهي الدقيق/ والخاص، تقيم سلطان لذتها مع الالهة وتقيم اتصالها معهم، وتمنحهم المتعة.

  مجدت النصوص السومريّة الأولى فرج الالهة انانا/ عشتار وصاغت له أجمل اناشيد الحب ورتلتها الكاهنات والبغايا المقدسات، لانهن وجدن ذواتهن بتلك النصوص الوفيرة التي تغنت بفرج الالهة انانا/ عشتار بوصفه “الرابية المقدسة المقببة عالياً”، حتى يُعلى فوقه القضيب المنتصب/ صولجان الاله الذكر/ البطل، ملك الالهة. ولقد كان ذلك - تحديداً - رمز إلوهية يهوه وملوكيته الذي وضع داخل تابوته واستمد منه التابوت قوته السحريّة الغلابة. 

وسأكتفي بإشارات مختصرة من أسطورة انكي وننخرساك لاضاءة العلاقة الموجودة بين الاله انكي والام الكبرى، ننخرساك/ وتمثيلاتها في الالوهات المؤنثة الأخرى وخصوصاً الالهة انانا/ عشتار/ والمقاطع التالية ستختصر - أيضاً - الكثير من الكلام وستوفر للمتلقي صورة كافية عن الاتصال الإلهي والطاقة المذوبة الكامنة في الجسد الالهي الموكول له تخصيب الحياة كلها. ويختصر الاله انليل/ السلطة التنفيذية في مجلس الالهة القديم، قانون الحياة الازلية الباقية بعنصرها - السائل المخصب - وعلى الرغم من أن انليل عرفت عنه مجموعة من الأدوار ضد بني البشر أهمها أحداث الطوفان المشهور، وقد امتد يهوه نحو انليل وأخذ منه الضربات الماحقة القوية لكنه في المقابل قدس الخصوبة في أسطورة مشهورة هي “كلمة انليل هي حياة البلاد”.

 “إن هن مست السماء”: فهذا هو الفيض إذ تنسكب من الأعالي الأمطار الغزيرة. ولئن مست الأرض، فهذا هو الرخاء، فمن الأسفل تطفح الثروات. 

كلمتك هي النباتات! كلمتك الحب، كلمتك هي الفيض: حياة البلاد جمعاء”. للثالوث العظيم في منظومة الالهة العراقية دور فعال في تخصيب الحياة والكون، وعبر الزواج الالهي كما في قدرات الاله آنو وأنكي، أما الالهة أنليل فكلمته هي حياة البلاد. الكلمة الالهيَّة القادرة على الخلق لحظة النطق بالشيء الكلمة المنطوية على سحرية خلاقة ومقتدرة. وما يهم هو تمركز الخصوبة في البنية الذهنية/ الأسطورية/ السومرية. 

“ثم صارت كلمة يهوه إلى ارميا قائلة: ها أنذا يهوه اله كل ذي جسد، هل يعسر عليَّ أمر ما؟ ها أنذا أدفع هذه المدينة بيد الكلدانيين، وليد نبوخذ نصر ملك بابل فيأخذها فيأتي الكلدانيون الذين يحاربون هذه المدينة فيشعلون هذه المدينة بالنار ويحرقونها هي والبيوت التي بخروا على سطوحها للبعل وسكبوا سكائب لالهة أخرى [كملكة السماوات] ليغيظوني لأن بني اسرائيل وبني يهوذا، إنما صنعوا الشر في عيني منذ صباهم، لأن بني اسرائيل إنما أغاظوني بعمل أيديهم، يقول يهوه لأن هذه المدينة [اورشليم] قد صارت لي، لغضبي ولغيظي، من اليوم الذي فيه بنوها إلى هذا اليوم “فإني” انزعها من أمام وجهي من أجل كل شر بني اسرائيل وبني يهودا الذي عملوه ليغيظوني به هم ورؤساؤهم وكهنتهم وانبياؤهم ورجال يهوذا وسكان اورشليم، وقد حولوا لي القفا لا الوجه [أعطوني ظهورهم داخل الهيكل وسجدوا لعشيرات]... بل وضعوا مكرهاتهم “تمثال عشيرات والتماثيل القضيبية المسبوكة من ذهب على مذبحه كما اشتكى لحزقيال] في البيت الذي دعي باسمي لينجسوه، ارميا 32 : 26-34. 

 من هذا النص الطويل اشارات ضمنية لاحقاد يهوه على بابل وكرهه لها من خلال عناصرها الدينية الصاعدة في عمق الديانة اليهودية وينطوي النص أيضاً على اعترافات لا لبس فيها عن شيوع عبادة الالهة عشيرات وانتشار طقوسها الجنسية، كما يلمح النص في طبقته العميقة عن اثارة الشبهات حول الاله اليهودي “أعطوني ظهورهم داخل الهيكل” وقال لحزقيال صراحة ويريد يهوه التأكيد على الانهيار السياسي كان بمشيئة منه، ولولا تلك الارادة اليهوية لما استطاع نبوخذ نصر اجتياح المملكة وتدميرها وقد تطرف يهوه كعادته ضد البابليين والاشارة لذلك واضحة. 

وتتكرر لعنات الاله اليهودي ضد بابل، لأنه ظل ملاحقاً بالالوهة المؤنثة/ عشتار المزاحمة لوظائفه التي ازاحتها الالهة عشتار إلى الهامش.

“أنزلي وأقعدي على التراب 

أيتها البكر، يا ابنة بابل 

اقعدي على الأرض بدل العرش

يا ابنة الكلدانيين 

فلا أحد بعد اليوم 

يدعوك المرهفة المغناج

... أنزعي حجابك وشمري الثوب

وأكشفي عن ساقك وأعبري الأنهار

لتنكشف عورتك ويظهر عارك

فانا أنتقم ولا يعيقني أحد

........................

أدخلي في الظلام يا ابنة الكلدانيين

فلا أحد بعد اليوم يدعوك سيدة الممالك.

يخاطب يهوه بابل من خلال الالهة المقلقة لراحته وراحة كهنة عشتار، ملكة السموات “سيدة الممالك، كما قال شفيق مقار. ويبدو يهوه من خلال النصوص التوراتية ميالاً للزواج الالهي، ولكن شريطة أن يكون الزوج الالهي له وحده، ويقيم هذا الطقس مع ابنته وزوجته اسرائيل، ولا يقبل اشتراك أحد غيره في هذه الطقوس، لأنه الاله القادر على اشباع رغبتها، وتظل حتى الأبد زوجته ولا تسمح لاحد غيره ممارسة الاتصال معها. لأن زوغان ابنته/ زوجته/ اسرائيل اعتراف بعطله الجنسي وعدم امكان اطفاء رغبتها، ومن خلال ذلك تحولت العلاقة بين يهوه وعروسه اسرائيل إلى علاقة عشق وغدر. 

الذي حدث هنا، أن ثيمة الزيجة المقدسة بين الملك الأرضي والالاهة في الاسطورة السومرية، اختلست ليهوه، لكنها ككل شيء آخر مختلس وملفق في اسطوريته وبطريقة معكوسة، فبدلاً من زيجة سومر المقدسة، عكست بهذه الطريقة:

1 -  انزلت الالاهة السومرية اسطورياً من عرشها السماوي ليتربع عليه يهوه.

 2 - تورات الالاهة، اسطورياً، بطمرها، ودمجها في “ابنة يهوه” حبيبة نفسه “اسرائيل”.

3 -  بات يهوه هو الذي بـ “أعلى” والالاهة، مطمورة في “ابنة يهوه” بـ “أسفل”.

 4 - زوج يهوه من الالاهة، فباتت، بطرياركياً، تحته في شخص “ابنته” معشوقته، اسرائيل.

 5 - وبذلك اسطورياً [بالجواز الشعري الأسطوري] اركب يهوه الاله الذكر بطرياياركياً، على الالاهة، فصارت هي التي “تحت” وهو الذي “فوق”. 

وبدت غيرة الزوج المخدوع يهوه، كأقرب ما تكون من غيرة أي بشري تخونه زوجته اللعوب.