العلاقة بين محارم فكري داود وزقاق المدق لنجيب محفوظ

ثقافة 2023/03/08
...

حسين عبد العزيز

عندما يكون الأديب مثقفاً نجده يقدم لنا هذا المنتج الأدبي الذي يتحدى عوامل التعرية كما الآثار المصرية القديمة التي تتحدى كل عوامل التعرية وما يحدث في الزمن من تقلبات.. وما كان للمصري القديم أن يقدم تلك الأشياء العظيمة لو لم يكن إنسانًا مثقفاً في ذاته.

إن المبدع لا بدّ من أن يكون مثقفًا لديه قضيته التي يعمل من أجلها، أياً كان الكاتب وأيا كان نوع كتابته، أي لا بدّ من أن يكون مثقفاً لكي يقدم منتجاً  إبداعياً يستحق أن يحمل تلك الصفة ومن ثم يقرأ باستمتاع من قبل القارئ.

وأنا لن أزيد؛ لأني أريد أن أذكر أني أمس الأول شاهدت فيلم “زقاق المدق” والحق يقال لا أدري كم مرة شاهدت هذا الفيلم بعد أن قرأت الرواية ذات الحجم الكبير جداً “طبعة دار الآداب البيروتية ذات الغلاف المميز جدا للفنان جمال قطب” وأثناء مشاهدة الفيلم تذكرت رواية “المحارم” وطريقة بنائها وكيف قدمها لنا المؤلف بالضبط كما قدم نجيب محفوظ روايته حيث الحارة أو الزقاق الذي جمع عددا كبيرا ومتنوعا من البشر وكلهم نماذج مختلفة وذات أحلام ومشارب لا يربطها رابط.. والذي يجمعهم شيء واحد فقط لا غير هو أرض وبيوت وشارع الزقاق، وأيضاً تجمعهم فكرة الخروج أو الهروب من الزقاق كما كان يفكر حسين كرشة وحميدة إلى عباس الحلو الذي يعلم أن حل مشكلته في أن يخرج من الزقاق ليعمل في البرنس مع حسين كرشة لكي يأتي بالمال فيستطيع أن يتقدم ويتزوج حميدة تلك الفتاة المتمردة على كل شيء وتسخر من كل شيء وتحب المال كما عينيها بعكس حسين كرشة الذي يحب الحياة لذا يريد أن يخرج من الزقاق ليعيش حياة جديدة وإن كانت في البرنس، فهو نموذج للشاب غير المنتمي لشيء غير ذاته لذا فنحن نجده يشجع الشاب المنتمي عباس الحلو على أن يترك تلك الحياة من أجل حياة  أخرى خارج الزقاق.

تلك الحياة التي ذهب فيها أبطال رواية المحارم للروائي فكري داود من أجل أن يكونوا ذاتهم كما فعل حسين كرشة وعباس الحلو الذي انكسرت نفسه وهو يعمل مع المحتل الإنجليزي، ولام نفسه على أنه وافق على تلك الفكرة الشيطانية التي بثها فيه فاوست زقاق المدق أو حسين كرشة ابن صاحب القهوة الشاذ.

ونحن يمكن أن نعد حسين كرشة يقوم بدور فاوست الذي يشجع الكل على الاستمتاع بالحياة بما هو متاح للكل فهو يفهم الكل ويشجع الكل على القيام بما يحبون ويرغبون، من دون التقيد بأي شيء مهما كان مقلقا للضمير أو خارجا عن الدين.

ونحن لن تقف إلا عند الصفحة رقم 270 التي يعترف فيها المحرم ويبدو الندم على تلك التجربة التي ما كان أن يقوم بها لو كان عنده ذرة كرامة أو عنده عقل يفكر أو يتخيل ما سوف يؤول إليه حاله عندما يسافر محرما لزوجته التي أخرجت عليه عقدها النفسية ولم يؤثر فيها تعليمها أو صلاتها أو حجها أو عمرتها أو أي فعل يدل على أنها مسلمة فنحن سوف نجد في الصفحة رقم 270 في رواية فكري داود المحارم حيث نقابل إحدى أهم شخصيات المحارم الذي يدخل في حوار أو اعتراف مع بطل الرواية الذي نرى ونسمع الأحداث والمآسي من خلاله ( في الطريق إلى تثليث وبعد فراغنا من سيرة الرجل، فاجأني سعفان سائلاً أتذكر حكاية المعلمة السمينة العانس التي جاءتها الإعارة فاضطرت للزواج من رجل جلف ليسافر معها. شريطة لهف نصف راتبها خالصا مع تكلفها بسائر مصاريف الرحلة، لكنه دأب على إهانتها وعدم معاشرتها كزوجة إلا إذا نقدته مبلغاً مالياً:

- قلت أتذكر طبعاً حديثك عنهما و..... وأتذكر تسجيله لها وهي تشخر أثناء النوم، وكذا أثناء معاشرته لها كزوجة، و....

-  قال: أعلم طبعا أنك لم تر أيا منهما، لأنهما انتقلا من تثليث قبل قدومك إليها.

-  قلت دهشاً: لكن ما الذي ذكرك بهما الآن؟

-  أطلق تنهيدة طويلة ثم قال: لقد تمادى في إيذائها بعد نقلهما، حتى وسوس لها الشيطان أن تضع له مخدرا في الطعام، ثم تقيده في سريره و... و...

-  وماذا يا بني؟

-  وتشعل النار في السرير، قبل إغلاق الحجرة عليه..

-  يا رجل!!

-  أقسم لك..

-  وبعدين؟

-  ولا قبلين، انقلبت الدنيا، وباتت سجينة غريبة بينما يرقد هو بالمستشفى كتلة لحمية محترقة، تتأرجح بين الموت والحياة.

أطبق صمت حزين على قلبي متعجباً من مصائر الخلق، الذين يرغبون في اتخاذ طرق ما، فتأخذهم الدنيا إلى طرق    أخرى. 

ماذا لو لم يتزوج هذا المحرم من تلك المعلمة؟ وماذا لو ألغيت إعارتها أصلاً؟ ألم يكن هذا أسلم لكليهما) ص 270  رواية المحارم..

تلك الفقرة التي نقلتها كامله توضح مدى الهوان الذي يشعر به الزوج أمام السلطة الممثلة في زوجته التي تمارس السادية معه بكل أريحية..

إذن هي رواية تنتصر للرجل في ظل ظروف وجد نفسه فيها من دون أي إرادة منه.

وتلك الرواية سهل تحويلها إلى عمل مسرحي كما “زقاق المدق” التي حققت نجاحاً مدوياً ما إن عرضت على خشبة المسرح..