«حصار مفتوح».. خفايا الخير والشر

ثقافة 2023/03/08
...

 وداد سلوم


في مجموعته القصصيَّة «حصار مفتوح» الصادرة عن الهيئة العامة السوريَّة للكتاب، يختار سامر أنور الشمالي أبطال قصصه بعناية ومن أشد زوايا الواقع كشفاً للنفس الإنسانيَّة وخفاياها وما تحمله من تناقضات أزليَّة بين الخير والشر، الحب والكره، الازدراء والقبول. راصداً تلك التناقضات وظهورها ضمن تركيبة المجتمع الفاعلة فيها، مقتنصاً فرصة التنويع وإمكانية تغيير المكان والزمان والأبطال في المجموعة، ما تتيحه القصة القصيرة. وذلك ليس غريباً على سامر الشمالي وهو الحائز لجائزة يوسف إدريس (المرتبة الأولى) للقصة القصيرة، وجائزة نبيل طعمة للإبداع، وجائزة راشد بن حمد عن الرواية لعام 2019.


برع الشمالي في التقاط الجوانب المتلوّنة من شخصياته عبر عجلة المعاناة والألم التي تطحن البشر بلا تردد. وفي رصد هذه المعاناة والظواهر المختلفة لنعيش مع أبطاله آلامها المتنوعة وخيباتها ونقرأ أجواءها النفسيّة المكثفة والتي تختصر مجتمعاً كاملاً تهصره حرب طويلة وظروف سياسيّة واقتصاديّة حادّة تساندها في افتراسه أنياب الإرث الاجتماعي فتظهر بواطن الانسان المظلمة والمغلقة على قهرها.نماذج بشريَّة منتقاة بعناية ولها أن تشكل نقاطاً لامعة لقراءة حركة المجتمع الذي نراه يعيش حصاره المفتوح بوضوح.

ولا بدَّ لنا هنا أن نتوقف عند العنوان كعتبة أولى  لنجد كلمتين متناقضتين (حصار – مفتوح)  ألا تنفي الثانية الأولى؟

الحصار هنا ليس مكانياً، بل هو ذهنيٌّ وحركيٌّ، إنّه ما يكبل القدمين عن المغامرة والقدرة على اجتياز هذا الواقع لعوامل يتشابك فيها العام مع الخاص والذاتي مع الجماعي والداخلي بما فيه من موروث ضخم وصولا إلى أزمة الراهن النفسيّة والسياسيّة.

عنوان المجموعة هو عنوان القصة الأخيرة فيها، «حصار مفتوح» حيث هناك مجموعة بشريّة منقطعة عن العالم في مكان مجهول، ما  يذكرنا بقصة روبنسون كروز والتي بُنِيَ عليها أكثر من فيلم سينمائي ولكنها في قصة الشمالي ليست جزيرة إنّها مكان ما يصلح ليكون أي أرض وأي وطن، والبطل هنا ليس فرداً بل جماعة. إذ  يصبح الضياع واقعاً وعليهم التعامل معه فتظهر التناقضات بينهم،  إذ يحرك الخوف ضرورة الاحتماء من الخطر الخارجي والمفترس (حيوانات الغابة) فتظهر فكرة إنشاء بيوت من الأغصان والحجارة لدى البعض ويبدؤون بالتنفيذ، بينما البعض يلهو غير آبهٍ وآخر ينتظر الخلاص عبر وسيلة إنقاذ خارجيّة كالتلويح لأيِّ طائرة تمر من دون أن يدرك هؤلاء ما تحمله لهم من خطر قد يصل حدود اصطيادهم، فالرغبة بالخلاص والنجاة هي الأهم أمام وعيهم للخطر الصريح وفقدان القدرة على استقراء الأخطار المبطّنة. ولعله الطريق الأسهل فحين تمر طائرة يهرعون للتلويح متدافعين ولاهثين أمام سراب الخلاص. يترك الشمالي النهاية مفتوحة للقارئ إذ هي خاتمة للمجموعة التي تجوَّل فيها في زوايا المجتمع خائضاً في وحول الطريق وعبثية الواقع والخيارات من دون ان يطرح أي حل فمن يملك هذا الحل السحري ما هو إلا واهم.

يتنقل سامر الشمالي في قصصه بين الجوانب المتلونة من الشخصيات ففي قصته الثانية: «المريض الذي مات أخيراً» يضيء أشد الأماكن سواداً في النفس البشريَّة حيث الأسرة التي أهملت ابنها العاجز طيلة حياته وتناسته وتعاملت معه على أنّه عار يجب أن تخفيه عن المجتمع خجلة من وجوده بينها، تستيقظ مشاعرها حين وفاته بغتة، فالموت الذي كانوا يطلبونه له كل يوم جاء أخيراً وفاجأهم، لتبدأ مواجهة الذات وتعرية الاحاسيس والغرائز، الأمومة والأبوة والأخوة، جميعها في محكمة الموت، وكلهم مدانون في سلة الاهمال الصارخ والتناسي المخزي (حتى أنّه لا توجد صورة واحدة له في ألبوم الأسرة) لكنهم ومن ثم يستأنفون حياتهم كأن وجوده كان مجرد خطأ مطبعي أزيل من حكاية حياتهم الفارهة، بالموت.لكنه يعود ويؤكد في قصة الروبوت الجميل أن الانسان هو القيمة الجماليّة التي لا يمكن نكرانها ومهما تجاوز العلم حدود الاستيعاب وقدرة الاستعاضة عن البشر بالروبوت فإنّه لا يمكنه أبداً أن ينافس الجمال البشري  ووجوده الإنساني. الوجود الذي يحمل داخله كل المتناقضات ففي قصة «طيور قضبان جدران» يكتشف السجين الذي كان يملك طيوراً حبسها في قفص، الشبه بينه وبين السجان الذي يأسره ففي كل منا يقيم النقيضان ويتنازعان في أول محنة.

تحلق الطيور في سماء الروح ناشدة الحرية التي تقف عند الرغبة بالتجسد من دون أن ينالها الإنسان والذي يخرج من سجن إلى سجن في مدينة سكانها من المرضى النفسيين، وهذا ما نراه في قصته التالية أبطال من ورق حيث الطبيب النفسي يحتاج إلى من يسمعه فيحدث مريضه عن مأساة حياته وإحساسه أنّه حشرة تسترق السمع للناس على غرار حشرة كافكا، الناس الذين يأتون إليه ليقصوا معاناتهم بينما يتآكل الذين لا يأتون في المقاهي واللامبالاة الرهيبة تجاه معاناتهم غير مدركين أن بساط الحياة يسحب من تحتهم ولا صورة عدوهم في عمى بصيري حتى أن أحدهم يطلق النار على مذيع نشرة الأخبار عبر الشاشة معتقداً أنه يستطيع إسكاته للأبد في رغبة لإيقاف الحدث وابتزازه لحياتهم. 

الحياة؛ الحافلة التي تسير من دون توقف لا نملك منها أسبابها ويغدو صاحب العقل غريباً حيث تنعدم القيم الإنسانيّة كما حدث في قصة «وحيد في رحلة مزدحمة» ونتساءل: هل الانتحار حلٌّ  مطروحٌ كما فعل فؤاد في قصة تداعيات الحوار الأخير.

أم لعله عبور الجسر الذي تراقبه أسلحة الحرس وبالرصاص الذي يثقب بدن كل محاولة، مشيراً إلى أن الخروج من هذا الواقع يحتاج إلى قرار أولاً وإلى مغامرة ثانياً.

 يدور الحوار الآتي في قصة الضفة الأخرى: «ـ قد يطلقون علينا النار. 

لا بدَّ من المحاولة .. هذه هي الحياة. 

ـ قد نرحل من دون أن نحقق شيئاً من أحلامنا 

ما نقوم به الآن من أعز أحلامنا

ـ أخشى أن يكون الحلم الأخير 

وحين تقول برجاء: لننتظر الوقت المناسب . يجيبها:

هل نظل ننتظر طوال عمرنا الفرص الضائعة؟»

لكن الرصاص يرتفع ليمزق محاولة العبور مع الجسدين الشابين وتنتهي القصة بإخبارنا أنّه على الرغم من كل ما جرى، لم يخل الجسر يوما من العابرين على قلّتهم إلى الضفة الأخرى.

ليس فقط الرصاص ما يفاجئ الذين يحاولون العبور نحو الضفة الأخرى حيث يلوح الحلم ولكن هناك الكثير من المفاجآت التي ستأتي بشكل غير متوقع حين يصبح المكان ساحة لعبث لا ينتهي تتنازعه مظاهر لا أحد يستطيع التمكن من رصدها  في تناقضها الصارخ تبدأ من  جرائم الشرف إلى فقدان الشرف العلني والذي يصبح اعتياديّا ولا أحد يحاربه، خلل يلبس المجتمع كاملاً إذ يصبح الكتاب عاهة يمكن كنسه عبر عامل النظافة وينعدم الحياء وتصبح الأخلاق تخلفاً وتنتهي المظاهرات بالقتلى والجرحى وغسل المدينة العطشى للماء، ثم تسير المهرجانات المزيفة لتنبئ بمفاجآت لا تنتهي. في غرائبية سرد وترميز الواقع المفضوح  فلا يتدخل القاص بالحدث ولكنه يصور اللقطات ويوقظها في لا وعينا النائم من كثرة الأحداث المتراكمة والمزدحمة فيه حتى بتنا في ناتج الموت.

هي التفاصيل التي تتراكم ولكنها ليست دوماً صغيرة فقد تقود الرغبة في كسر الضجر إلى مأساة في مجتمع لا يعترف بالآخر، ولا بقبوله ولا يمارس ما يدعيه من ثقافة (ويغرق المثقف في أوراقه). 

بينما تصبح ازدواجية المعايير هي المحرك الأخلاقي لأحكامنا فالشرف معياره الخيانة الجسديّة للمرأة التي في دائرة ممتلكات الرجل سواء زوجةً او ابنةً أو أمّاً، وقد تقتل بسبب الظن وحسب  بينما الرجل يعيش علاقته مع عشيقته بحريَّة فعارُها ليس عليه. يطلب منها ما يريد ويغرقها بما يبخل على زوجته ألا يكفيه ذلك ليكون رجلاً هي قصة تفاصيل ليست صغيرة.

يلعب الكاتب في تحريك انتباه القارئ وشده عبر النقلات النوعية في الذهن وفي المعطيات المتداخلة من السياسي إلى الرمزي إلى التهكم، فالمقهى القديم هو ساحة عامة بحجم مجتمع بكامل أطيافه وهمومه يلبسه الروتين القاتل وريث إعادة تدوير المعاناة يبحث الجالسون فيه عن لعبة فيختارون أخطرها لعبة الانتخابات، وما أن تبدأ حتى نكتشف أن كل شخص في المجموع هو ديكتاتور يسعى لحرمان الآخر من حقه وحين يفوز بائع اليانصيب (لعله حامل الحظ المرتقب) حامل المغامرة نحو السعادة التي يحملها الفوز لكن دائما النهايات تُحاك بعيداً تنتهي القصة بخط أحمر يرسمه ملثمون  فبعض الألعاب لا يجوز التفكير بها فقد تنتهي بخروج الجمهور إلى غير رجعة.

خلال المجموعة الواقعة في 158 صفحة هناك مسحة من الكآبة تعلو وتهبط وتستغرق القارئ ذلك أنّها تخاطب كوامنه ولا وعيه الذي يختزن كل هذه الأحداث. المسحة التي تعيد للقارئ إنسانيته عبر وعيه للمشهد والصور المتكررة أمامه في زحمة الحياة، والتي تبدو رغم مدتها الزمنية المتفاوتة والتي قد تطول أو تقصر، إلا أنها تمر بسرعة وحيث لا نستغرق سوى زمن قصير لتذكر أجمل ما في هذه الحياة القصيرة أصلاً، كما في القصة الأولى التي تبدأ بها المجموعة، وهي بعنوان «لو لم يحدث ذلك» التي تحكي عن زوجين عجوزين يتذكران كيف وقعا بالحب وتفاصيل صغيرة ممتعة للحب الذي يفيض بالعشرة الجميلة فتبقى الحياة طازجة بالإحساس المتبادل وتنتهي القصة بالإشارة لموت الزوج أثناء الحديث وقد عاش الحب حتى آخر دقائق

حياته.

يغازل الشمالي السياسة من بعيدٍ لكنّه يحاول وضع الصور المنتقاة بعناية تحت الضوء الكاشف من دون انحياز، ومن دون توتر رغم أنه يقتنص لحظات توتر شخوصه الشديد والتي تمثل ذروة معينة في كل قصة لنجد ان كل الذين يتحدث عنهم وهم خليط يشكل وطنه، إنما يعيشون حصارهم الحقيقي والحاد ولم تنقذهم الحرب منه بل عمقته

أكثر.