حدود الريادة والكم الشعري

ثقافة 2023/03/08
...

  ريسان الخزعلي


(1)

لم يلتفت الشعراء الرّواد في العراق (السيّاب، نازك الملائكة، البياتي، بلند الحيدري) إلى كتابة المسرحيّة الشعريّة، لأسباب قد يبررها الانشغال في موضوع التجديد الذي شكّلوا علاماته الأساسية. ومع تصاعد زخم اندفاعهم الشعري المعروف لم يتوافر أيُّ منهم على كتابة مسرحيّة شعريّة خالصة؛ إلا أن اهتماماً لاحقاً قد حصل، إذ كتب البياتي مسرحية (محاكمة في نيسابور)..، غير أن هذه المسرحية لم تكن ذات بناء درامي/ شعري ملموس كما حصل في النسيج الشعري عند بلند الذي اعتمد تنويعات درامية في بعض قصائد مجموعته (أغاني الحارس المتعب)..، وبوضوح فني/ كمي في (حوار عبر الأبعاد الثلاثة). ومثل هذه الاشتغالات لم تؤشّر اتجاهاً في كتابة مسرحية شعريّة عراقيّة، وبقيت في حدودها المتحققة.ومن شعراء الجيل اللاحق للروّاد، اهتمَّ الشاعر سعدي يوسف في كتابة المسرحية الشعرية وبمساحات محدودة تقع ضمن مجاميعه الشعرية (قصائد مرئية، نهايات الشمال الأفريقي) وغيرها. وللشاعر خالد الشوّاف إسهاماته المعروفة في هذا المجال، غير أنها لم تكن ذات فاعلية فنية مؤثّرة تكسبها التوصيف الدرامي الكامل. كما أن شعراء عراقيين من الأجيال اللاحقة قد كتبوا في المسرح الشعري وعلى فترات متباعدة، غير أن هذه الكتابات ظلّت هي الأخرى في حدودها المتحققة ولم تَشر إلى اتجاه واضح لأسباب عدّة، منها: تجريبيَّة المحاولات، تشعّب عناصر التأسيس الفني المتشكّلة من مدرسيّات ومنهجيّات مختلفة، ابتعاد المخرجين المسرحيين العراقيين عن إظهار هذه المحاولات على خشبات المسارح لأسباب مجهولة. ومن الشعراء العرب في تجربة كتابة المسرحية الشعرية الخالصة، هنالك تجربة الشاعر يوسف الخال في مسرحية (هيروديا) ..، وهي تجربة فنية متميّزة. كُتبت المسرحية عام 1954 باستعادة تاريخية معروفة الجذور. كما أنَّ تجارب الشاعر أدونيس في كتابيه (المسرح والمرايا وأشجار تتكئ على الضوء) هي الأخرى تُمثّل استدراكاً إضافياً نوعياً في كتابة المسرحية الشعرية الخالصة. ولبعض الشعراء العرب إسهامات متنوعة في هذا المجال الإبداعي، غير أن أيّاً منهم لم يتواصل في تأصيل اسهاماته، وبقيت المحاولات تُراوح في انتشار محدود، إذ سرعان ما يعود الشاعر إلى هاجسه الشعري الألصق بتجربته، ويعتد بأن القصيدة هي الرهان الأكيد في مضمار الكتابة الشعرية.

(2)

إنَّ تجربة الشاعر صلاح عبد الصبور كانت هي الأوضح والأرسخ في التأسيس لكتابة مسرحية شعرية وباِنفرادات فنية/ جمالية وسمت تجربته التي أضاء حدودها في كتابه (حياتي في الشعر) والذي يمكن تحسس هذا الرسوخ في الرنين الإيقاعي في عبارة (حياتي في الشعر) وليس (حياتي مع الشعر). ومسرحيات صلاح عبد الصبور تقوم على فهم متجذّر لفاعلية وجدوى المسرح في الشعر والحياة على السواء، وليس تنويعاً فنياً آنياً في الكتابة الشعرية. وهكذا تنوّع الصراع في مسرحياته، إذ لم يعد هنالك تشابه مكرر في طبيعة الصراع من مسرحية إلى أخرى. وحتى قراءته للشعر العربي القديم قد جاءت قراءة ممسرحة هي الأخرى في كتابه (قراءة جديدة لشعرنا القديم) وبمغايرة مع الكثير من القراءات الشعريَّة.

إنَّ الالتفات إلى كتابة المسرحية الشعرية قد جاء مبكراً وبتماسٍ مع الإصدار الشعري، إذ أصدر الشاعر مجموعته الشعرية الأولى (الناس في بلادي) عام 1957 ومسرحيته الشعرية الأولى (مأساة الحلّاج) عام 1964. ثم توالت الإصدارات بالتناوب كما سنوضّحها إحصائياً في الفقرات اللاحقة لتوضيح تاريخيّة كتابة المسرحية الشعرية الخالصة على مستوى الكم والنوع وتراجع الكم الشعري مقارنة بما يليه، إذ انتصفت الكتابة المسرحية نشاطه الشعري وشغلته بهم فني - درامي شعري - يُكمّل التجربة الشعرية كوحدة متجانسة، وليس تنويعاً لاحقاً يقترن بصفة الإضافة التكميليَّة.

والمجاميع الشعرية هي: الناس في بلادي 1957، أقول لكم 1961، أحلام الفارس القديم 1964، شجر الليل 1973، الإبحار في الذاكرة 1980. أما المسرحيات الشعرية، فهي: مأساة الحلّاج 1964، مسافر ليل 1970، الأميرة تنتظر 1970، ليلى والمجنون 1971، بعد أن يموت الملك 1972. 

وبمعاينة إحصائية نستطيع ملاحظة (كثافة) كتابة المسرحية الشعرية مقارنة بـ (كثافة) كتابة المجموعة الشعرية، لنجد الترابط الإبداعي - رغم الانتصاف الذي أشرتُ إليه- في وعي الشاعر المتناوب بين كتابة الشعر والمسرحية الشعرية على السواء.

إنَّ هذه المعاينة الإحصائية، نجدها مبرراً كافياً لوصف تجربة عبد الصبور بالريادة في المسرح الشعري العربي بعد إضافة العناصر الفنية/ الجمالية، وتنوّع الصراع في مسرحياته الشعرية. فمن (مأساة الحلّاج) ودراميتها المتحققة أساساً في التاريخ، وقد أضفى عليها الكثير شعرياً، إلى (مسافر ليل، ليلى والمجنون، الأميرة تنتظر، بعد أن يموت الملك) حيث يكون التأمل الشعري/ الدرامي صفة عالية في الوجود ومصير الإنسان الغامض، برعَ الشاعر في تأسيس وتأصيل كتابة مسرحية شعرية مثّلت تفرده وانفراده في هذا الإبداع الشعري/ الدرامي.إنَّ الدراما - وبإضافة نوعية، وإدراك فني - تتسلل إلى معظم قصائد الشاعر التي تُقيم تأسيسها على الحوار، وتعدد الأصوات، مما يجعل الانطباع جازماً بأنَّ المسرح الشعري جوهر القضية التي تشغل الشاعر في تأكيد خصوصيته الإبداعية. وبذلك تكون مسرحيات هذا الشاعر، بين حدود الريادة والكم الشعري، اشارةً عالية التردد في الشعريّة العربيّة وبأطياف متّسقة الألوان، يشع فيها المسرحي والشعري. ولنكرر قولهُ اللوني: “ويبدو جسمها الذهبي متكئاً على الصحراء، يكون الشاهدان عليكما، النجم والأنداء، ويبقى الحُب للآباءِ موصولاً”.

(3)

إنّهُ المسرح، إنّهُ الحياة، إنّهُ الحُب الموصول بين ماضٍ تحقق وحاضر يطمح في أن يتحقق ومستقبل في نيّة أن يُقدّم نفسه ممسرحاً. هكذا عللت الوجود مسرحياً.. يا صلاح...