جنون الأنا في التاريخ البشري

ثقافة 2023/03/08
...

  كامل عويد العامري 


بحث شامل يقلب الرأي العام عن الطبيعة البشريَّة والحضارة. يعتمد المؤلف على أدلة تشير إلى أن حضارة ما قبل التاريخ كانت غير عدوانيَّة وقائمة على المساواة، ولذلك فإن الأساطير حول العالم عن عصر ذهبي أو جنة أصليّة لها أساس أثري وواقعي.


لعدة سنوات، كان البعض مفتونًا بلوحات ما قبل التاريخ التي يمكن العثور عليها في العديد من الكهوف في جميع أنحاء العالم والتي وربما هناك من زارها. ولطالما ما يفاجأ بغياب صور المحاربين وصورهم في هذه اللوحات. في هذا الكتاب الرائع، يشرح ستيف تايلور هذا الغياب. ووفقًا له، فإنَّ الأساطير حول العصر الذهبي أو الجنة الأصلية الموجودة في جميع أنحاء العالم لها أساس حقيقي وأثري. ومع ذلك، في مرحلة ما خلال عصور ما قبل التاريخ، حدث خطأ ما، أي عندما انتشرت الحرب وساد النظام الأبوي وعدم المساواة الاجتماعية والتطورات المماثلة الأخرى. حتى ذلك الحين، كانت المجتمعات البشريّة مسالمة ومتساوية على نحو عام، وكان الناس يشعرون بالرفاهية النفسيَّة والارتباط بالكون. لم يكن ذلك تخمينا أو أحلاما ملوّنة، بل يقدم تايلور الكثير من الأدلة لدعم

ما يدعيه.

بدأ التحول نحو 4000 قبل الميلاد، بعد التغيرات المناخيّة المهمة في آسيا الوسطى والشرق الأوسط. جعلت هذه التغيرات الحياة أكثر صعوبة وتسببت في زيادة الشعور بالفرديّة بين سكان هذه المناطق. يطلق تايلور على هذه الظاهرة اسم «انفجار الأنا»، ويؤكد أن هذا هو الفرق الأساسي بين أحفاد هذه الشعوب (مثل الأوروبيين أو الأمريكيين اليوم) والشعوب الأصلية التي لا تزال موجودة، مثل السكان الأصليين الأستراليين أو الأمريكيين الأصليين. 

ووفقًا له، فإنّ هذا الشعور المتزايد لدى الرجال بالذات هو السبب الرئيس للحروب والهيمنة والقمع الاجتماعي، فضلاً عن العديد من الخصائص الأخرى، مثل الديانات التوحيديَّة. ووفقًا له، فإنَّ تاريخ البشريَّة، بدلاً من أن يكون في تقدم مستمر (كما يود بعض المؤرخين أن يؤمنوا)، يسير نحو الانحطاط.

بعد تحليل مفصل لميراث طويل من الحزن والعنف والقمع الذي ينتشر في التاريخ، لا يزال تايلور قادرًا على البقاء متفائلاً بشأن مستقبل البشريَّة. ووفقًا له، هناك العديد من الدلائل على أنّنا في بداية مرحلة تاريخيّة جديدة، وهي مرحلة يسميها تايلور عصر ما بعد السقوط. 

إنَّ التطورات الأخيرة، مثل العلاقات الأكثر مساواة بين الرجل والمرأة والصورة الأكثر سلامة لجسم الإنسان والطبيعة، تبشّر بالأمل في المستقبل.

ويرى الدكتور ستانلي كريبنر - أستاذ علم النفس في جامعة سايبروك بكاليفورنيا - الذي كتب مقدمة لهذا الكتاب، إنّ أفكار تايلور استفزازيّة وآسرة للقارئ دائمًا. وهو يأمل أن يصل هذا الكتاب المهم إلى جمهور واسع وأن يصل إلى الأشخاص والمؤسسات التي تؤثر على السلوك العام والآراء. 

ففي الوقت الذي يتعرض فيه وجود البشريّة ذاته للتهديد، يقدم لنا ستيف تيلور طريقة حكيمة وعملية للخروج من المستنقع الذي يشوّه الطبيعة البشريّة.

منذ 6000 عام، عانى البشر من نوع من الذهان الجماعي. عبر التاريخ كله تقريبًا، كان البشر مجانين بدرجة أو بأخرى. يبدو الأمر غير معقول، لكننا توصلنا إلى قبول عواقب جنوننا كالمعتاد.

الجنون في كل مكان، ولا أحد يعرف ما هو السلوك العقلاني السليم بعد الآن. لقد أصبحت أكثر الممارسات عبثيّة وفحشًا تقاليد، ويُنظر إليها على أنّها طبيعيّة، وأصبح من «الطبيعي» للبشر أن يقتلوا بعضهم البعض، ويضطهد الرجال النساء، ويضطهد الآباء الأبناء، وامتلكت فئات صغيرة من الناس القوة وهيمنت على الكثرة الكاثرة من جنسهم. 

وصار من الطبيعي أن يسيء الناس معاملة العالم الطبيعي لدرجة التسبّب في كوارث بيئيّة، واحتقار أجسادهم، والشعور بالذنب لامتلاكهم رغبات طبيعية تمامًا. لقد أصبح من «الطبيعي» لدى البشر أن يحاولوا جمع ثروة ضخمة لن يحتاجوا إليها أبدًا، وأن يسعوا إلى ما لا نهاية لتحقيق النجاح أو القوة أو الشهرة. وأصبح من «الطبيعي» أيضًا أنه، حتى لو تمكنوا من الحصول على ثروة ومكانة اجتماعية معينة، فإنهم لا يجدون أبدًا أي إشباع أو رضا بأي حال من الأحوال، ولكنهم يظلون غير راضين

باستمرار. 

الغرض من هذا الكتاب هو معرفة مصدر هذا الجنون، ومعرفة ما إذا كان طبيعيًا حقًا لدى البشر. وهو ينظر في العديد من الأدلة التي تشير إلى أن البشر الأوائل كانوا «أصحاء» أكثر مما نحن عليه الآن. في الواقع، وحتى وقت قريب، كان هناك العديد من الأماكن في العالم فيها ضرب من السلوك المرضي الذي وصفه للتو. 

كل هذا الجنون هو نتيجة حدث يسميه الكاتب بـ السقوط - وهو تغيير في علم النفس الجماعي تعرضت له مجموعات كبيرة منذ نحو 6000 عام نتيجة لكارثة بيئية بدأت في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى. ثم ظهر نوع جديد من البشريّة، وكان لدى هذا النوع إحساس أكثر تطوراً بالفرديّة وطريقة جديدة لإدراك العالم واختبار الحياة. وبطريقة ما، كان هذا النوع الجديد من البشر متطورا، سمح بالتقدم التكنولوجي، على سبيل المثال، الحضارات السومريّة والمصريّة (فضلا عن العديد من الحضارات الأخرى التي تلتها). لكنها أدت أيضًا إلى ظهور أمراض اجتماعية مثل الحروب وهيمنة الذكور وعدم المساواة الاجتماعيّة. 

يرى الكاتب أنّه قبل السقوط، كانت الحياة البشريّة على ما يبدو ممتعة إلى حدٍّ ما وغير مضطربة، بل وحتى بهيجة. ولكن بعد السقوط، أصبحت «صعبة  وفضة وقصيرة»، مليئة بالبؤس لدرجة أن أجيالًا لا تحصى لم تستطع تحملها إلا من خلال إقناع أنفسها بأنها مجرد ممر قصير - يجب تحمله قدر المستطاع - قبل أن يتمكنوا من الوصول الى جنة أبديَّة. 

لكن ربما، وهو يناقش في القسم الأخير من هذا الكتاب، نكون قد أنجزنا حلقة مكتملة الآن وأصبحنا نتمتع بفكر سليم عاقلين مرة أخرى. خلال القرون القليلة الماضية، وخاصة منذ القرن الثامن عشر، يمكننا أن نرى من خلال بعض العلامات التي تشير إلى عودة ظهور جميع الخصائص التي كانت موجودة في العالم قبل السقوط.  هناك عودة لانبثاق الديمقراطية والمساواة، واحترام الطبيعة والكيان البشري، وتوعية بأن هناك حقائق روحيّة أساسيّة في الكون ... إلخ.  قد لا تكون هذه الخصائص مهيمنة حتى الآن مثل خصائص السقوط، لكنها بالتأكيد أصبحت أقوى.

يدور هذا الكتاب كثيرًا حول ما فقدناه، ولكن نأمل أيضًا ما يمكننا فعله لاستعادته. فقد كانت الستة آلاف سنة الماضية بمثابة كابوس انفصامي بدأنا للتو في الخروج منه. 

لكن الكاتب لاينسى امتنانه لجيمس ديميو، الذي منحه كتابه (صحراسيا Saharasia) المفتاح لفهم الأسباب البيئية للسقوط. وكتاب ديميو دراسة جغرافية جديدة حول الأصول التاريخية القديمة للعنف البشري والحرب، بالاعتماد على الأدلة الأثرية والأنثروبولوجية العالمية، ويقدم دليلاً جوهريًا على أن أسلافنا القدامى كانوا غير عنيفين، وأكثر اجتماعية وحبًا من معظم البشر اليوم - فضلا عن ذلك. 

تشير الدراسة إلى التغير المناخي الدراماتيكي في العالم القديم، وجفاف الصحراء الكبرى والصحارى الآسيوية، مع ظهور المجاعات والعجز والهجرات القسريَّة التي دفعت البشر الأوائل إلى أنماط اجتماعيَّة عنيفة، وهي صدمة لم نتعافَ منها بعد منذ أكثر من 6000 عام. ولكن الحقيقة هي أنّه مع تطور هذه المنطقة من مركز أخضر خصب للثقافات الناشئة إلى صحراء قاحلة غير مضيافة، كانت تحدث ظاهرة مماثلة في النفس البشريّة: نمو العنف والقمع الجنسي، وكان لظهور المجتمعات التي يسيطر عليها الذكور أن يوازي نمو الصحارى في المنطقة. ويقول ديميو “مع استثناءات قليلة جدًا، لا يوجد دليل واضح لا لبس فيه على الحرب أو العنف الاجتماعي على كوكبنا الأرض قبل نحو 4000 قبل الميلاد... حيث لا يوجد لدى علم الآثار سوى القليل من الأدلة على الحرب أو العنف الاجتماعي. ويبدو أنَّ أساطير “جنة عدن” تستند إلى هذا الموقف الواقعي المبكر، والذي انتهى ببداية الجفاف والمجاعة الشديدة التي استمرت أجيالًا في العالم القديم الذي هزه “تغير مناخي هائل، عندما بدأت قبل 6000 عام تقريبًا تجف مساحات شاسعة من الأراضي العشبيَّة والغابات الخصبة في العالم القديم وتتحول إلى صحراء قاسية. 

الصحراء الكبرى الشاسعة والصحراء العربية والصحارى العملاقة في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى التي لم يكن لها وجود قبل نحو 4000 قبل الميلاد “حيث حدث شيء ما أدى إلى الجفاف الذي خلق فوضى اجتماعيّة وعاطفيّة بين المجتمعات الزراعية البشرية النامية في هذه المناطق نفسها.