عقدة النهايات في السرد الروائي

ثقافة 2023/03/09
...

 ابراهيم سبتي


تتنوّع النهايات الروائيَّة تبعاً لاختلاف وتباين موضوعاتها وزحمة أحداثها. فثمة نهايات مفتوحة وأخرى مغلقة وأخرى متوقعة وغير متوقعة وصادمة ومدهشة ومفاجئة ومبهمة وغير مناسبة للأحداث وهكذا. هذه النهايات هي بالنتيجة عصارة فكر كاتب الرواية التي يعتقد بأنّها مناسبة لأحداثه ومن حقه أن يضع الخاتمة التي تناسب سرده وهو المسؤول عنها بالتأكيد.

تبدأ الرواية بمستهل يحدد مصير متابعة القراءة من عدمها. لأنَّ صدمة قرار استمرار القراءة، يأتي منذ أول سطور الافتتاح المقنّع والمشبّع بلغة تنساب بكل هدوء، مع تعاقب الجمل والمقاطع والمستوى اللائق من السرد الجذّاب، وبعكسه سوف تنقطع المواصلة ويخسر الكاتب من يتابعه. والاهتمام بالمفتتح يؤدي بالضرورة إلى الاهتمام بالخاتمة لأنهما وحدة متكاملة بالضرورة. ولأن بعض الروائيين يعطون للحوار أهمية ملفتة، فضلاً عن اهتمامهم بالحبكة والصراع وصولاً لإثارة الأحداث، ومن ثم إيلاء أهمية للتفرعات والتفاصيل الأخرى مما يجعل المتلقي يتخيل النهاية وفقاً لمعطيات السرد وحسب فهمه لما مكتوب. هذه النهاية المتخيّلة قد لا تكون هي بالضرورة النهاية المقررة من قبل الروائي؛ ولذا كانت النهاية المفتوحة أكثر تأويلاً من النهايات الأخرى. 

وعلى القارئ الذكي والمُلِمّ بطبيعة القراءة الروائية، أن  يواصل إيجاد الخاتمة المناسبة بعد عناء في البحث والتأمل والاستنتاج. فيتحول هذا القارئ الى جزء من السرد بل الى كاتب آخر للنص عندما يبحث عن حلول وأجوبة للأسئلة التي تظل تدور في رأسه بعد انتهاء القراءة. يلعب القارئ الواعي دوراً تكميليّاً مهمّاً في وضع النهايات المفترضة خاصة تلك التي يستنبطها من وحي السرد وأحداثهِ ويلملم الخيوط ويقاطعها للوصول الى النهاية المتخيلة التي يعتقد هو بأنها مناسبة للرواية. وهنا ستكون النهاية المكتوبة في الخاتمة، ربما ليست هي النهائيّة المناسبة، بل ليست هي الوحيدة التي تحوم في ذهن القارئ وخاصة في النهايات المبهمة والمفتوحة وغير المتوقعة. إن أغرب النهايات هي تلك التي تكون مفاجئة وسريعة وفي غير محلها خاصة أن الأحداث وعُقَدها مازالت قائمة من دون حلول وسير السرد لم ينته بعد. فقد تكون نهايات مُضعفة للنص وغير مواكبة للسرد. إنّها عقدة يعاني منها القارئ والكاتب معاً إن اعتبرنا أن المفاجأة ستكون بلا تخطيط ولا تصور مسبق. في حين. نجد أن بعض الكتّاب يلجؤون إلى النهايات الإشكالية والمثيرة للجدل فتضع القارئ في حيرة من أمره. وهو يرى أن كل الافتراضات التي وضعها لا أساس لها وهو الآن أمام نهاية مثيرة قد لا تكون صدفة أبداً، بل إن الكاتب ربما هو من جعلها بهذا الشكل لإثارة الاهتمام بروايته أو لاعتقاده بأن تلك النهايات ستجعله كاتباً متفرّداً وجريئاً فينال حظوة من الشهرة والانتشار.

إنّنا لنجد أن النهايات المفتوحة أكثر النهايات الروائيّة التي تحتمل النقاش والتأويل ويشترك القارئ بتفاصيل الأحداث للتوصل إلى خيوط تجعله يبني تصوراته وفقاً لها. حين تظل الحلول قائمة وتتغير وفقا لما جناه وفهمه القارئ من السرد المحمّل بكل التفاصيل القابلة للاستنتاج. وهذا ما رأيناه في أغلب النتاج الروائي الروسي الخالد والذي كان مثالاً للتأويلات والبحث عن الأجوبة. في حين نجد أن روايات نجيب محفوظ نهاياتها متوقعة ويكون القارئ جزءاً من الحدث ويتفاعل بمشاعره وأحاسيسه معها حتى يجد أن النهاية تأتي وفقاً لتوقعاته. أما الروايات العراقية وخاصة بعد 2003، فقد كانت مختلفة وهذا سيحتاج بحثا مطولاً بالتأكيد. ولكن يمكن إيجاز الأغلب الأعم منها بأن نهاياتها تنوعت بين الصادمة والمفتوحة والمغلقة والمثيرة للجدل. أي أنّها لم تكن تسير على خط بياني واحد وهذا مستحيل في السرد الروائي المتعدد والمختلف. 

أعتقد بأنَّ أفضل النهايات هي عندما يكون القارئ طرفاً في وضعها، بمعنى أن الرواية وصلت فكرتها إليه وكانت مقنعة له، ومن ثم ستكون أكثر تفاعلاً مع معطيات القراءة ونتائجها بالتأكيد. إنَّ النهايات المفتوحة أكثر النهايات الروائيَّة دهشة ومتعة وتنشيطاً لفعل القراءة وإيقاداً للذهن والوعي. وخاصة أنها تحرّك مدارات الأسئلة والبحث عن أجوبتها كما هو الحال في بعض الأفلام السينمائية المهمة التي لا تنتهي نهايات جاهزة ومباشرة حسب المتوقع. إنها مبهرة في كل حلّ يُقدم على أنه النهاية المناسبة، وهكذا تكون عملية البحث والتقصي في تكوين صورة متكاملة للرواية التي تحتاج إلى التفاعل وفكّ الألغاز والأجابة عن الأسئلة التي يطرحها الكاتب بين ثنايا سرده. ومهما تنوعت النهايات فإنَّ الكاتب هو من يصنع نهايته المناسبة قبل أن يتدخل القارئ الواعي ويشارك الكاتب قناعاته ولكنه ليس بالضرورة أن يتطابق معه.