سعاد الجزائري
الأعمال الفنية أو الإبداعية بعد رحيل منتجيها تصبح مثل النص المقدس أو الوصية، التي لا يمكن المساس بها قانونيا وإنسانيا وحتى شرعيا حيث قيل؛ لا يجوز تغيير الوصية ما لم تكن فيها مخالفة شرعية.
فلا يحق لأي كان أن يعيد صياغة عمل الروائي العظيم غائب طعمة فرمان، الذي أحبه الناس (النخلة والجيران)مثلا، لأن النص سيتجرد من جوهره الذي صاغه هذا الكاتب دون غيره، وكذلك لا يمكن إضافة رمز لنصب الحرية لأنه منقوش كختم على أرواحنا، وان أجروا أي تغيير عليه ستتزعزع أولا روح الخالد جواد سليم ولاحقا أرواحنا.
أن أعمال فنانينا الذي رحلوا وتركوا لنا نتاجهم كتمثال أو نصب أو مؤَلَف، هي بالتالي وصاياهم التي حرمت القوانين الإنسانية والابداع والشرع التلاعب بها، أو إجراء أي تغيير عليها.
سبق لي أن كتبت عن تمثال بغداد للراحل محمد غني حكمت، الذي تم قطعه إلى نصفين فقد نقلوا بغداد التي رمز لها حكمت على شكل امرأة تجلس بكبرياء وشموخ، ترفعها إلى الأعلى مسلة بُنيت من أبيات أشعار تمجد هذه المدينة الجوهرة، التي غطى قهر الزمن وغدره الذي أنثال عليها فغطى بريقها.
أن روح محمد غني تزعزعت لأنهم فصلوا بغداد عن شعرائها وعن كلماتهم التي تغزلوا عبرها بجمال مدينتهم الأسطورية.
عندما زار محمد غني قبر مصطفى جمال الدين الذي نقش عليه بيت شعره القائل:
بغداد ما اشتبكت عليك الأعصر
إلا ذوت ووريق عمرك أخضر
يومها وضع غني يده على القبر وقال لروح جمال الدين : (أعدك أني سأنحت نصبا لبغداد ولبيت شعرك عنها). أوفى النحات بوعده ونفذ النصب ليتوسط ساحة الاندلس. المرأة الشامخة التي ترمز إلى (بغداد)، والمسلة التي نقشت عليها اشعار قيلت عن مدينة الشعر والعلم والسلام الذي قلما حظيت به.
بهذا العمل رفعت كلمات الشعراء بغداد عاليا، لتجلس بفخر على جوهر وعمق معاني الكلمات. لكننا وللأسف نقضنا وعدنا لمحمد غني، ولم نحافظ على وصيته، تمثاله، ففصلنا بغداد عن شعرائها ووضعت (المرأة) فوق عمل فني آخر، وبهذا تمت الاساءة للعملين معا. وظلت المسلة كاليتيمة تبحث عن بغدادها وكلمات الشعراء تبحث عن معانيها.
صحيح أن موقع تمثال (بغداد) لم يكن موفقا، وضاع العمل في زحمة ساحة الاندلس، والانتشار الفاقع لبياض جامعة الاسراء، ولكن هناك مواقع أخرى ممكن أن تبرز جمالية العمل في ساحات وشوارع بغداد، كما أن تمثال المرأة بدا صغيرا فوق عمل ضخم بحجمه، ولا وشائج تربط بين العملين لاختلاف الاسلوب، لكنهما يجتمعان حول العراق. اعيدوا بغداد إلى مسلتها ولا تزعزعوا روح النحات محمد غني حكمت، لأنه استأمن بغداد عندنا والامانة لا تُخان، والوصية مقدسة.