ياسين العطواني
يبدو أن زلزال القرن الذي ضرب بلاد الترك والشام لم يكتفِ بتحطيم جدران الأبنية الأسمنتية والعمارات السكنية، بل تعدى إلى ما هو أبعد من ذلك، عندما قام بتحطيم الكثير من الحواجز السياسية التي كانت تفصل بين دولِ وشعوب. فحجم المأساة أكبر من أن يحدها حاجز إقليمي أو دولي، ولهذا نشاهد اليوم أرتفاع مناسيب القيم والمفاهيم الإنسانية في أرجاء الكرة الأرضية، وبالمقابل هناك انخفاض واضح لمنسوب الكراهية والخلافات السياسية إلى مستويات دنيا، الأمر الذى حدا بالكثير من البلدان إلى التسابق بتقديم يد العون والمساعدة إلى الشعبين السوري والتركي، على الرغم من ان بعض هذه البلدان كانت على خلاف عميق مع النظامين السوري والتركي.
وهذا الأمر يؤكد أن الكوارث الطبيعية بمختلف أنواعها وأشكالها، والتي تقع خارج سيطرة الأنسان توحد الشعوب، بل وحتى الأنظمة السياسية تتناسى خلافاتها عندما تحل الكارثة، فالهم الإنساني، يمثل القاسم المشترك الذي يجمع بين مختلف الشعوب والأمم، ومهما اختلفت أعراقهم، ودياناتهم، وثقافاتهم. وبطبيعة الحال هذا التوجه ينسجم مع فطرة الإنسان السليمة وغير الملوثة، فمهما طغا مفهوم الأنا والفردية، والانغماس في الحياة المادية، في ظل الإيقاع السريع للحياة المعاصرة تبقى المبادئ والقيم الإنسانية العليا مُتأصلة في وجدان وضمير الإنسان السوي. وهذا ما يمكن ملاحظة بوضوح من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، وحجم التعاطف الكبير الذي يبديه الكثير من الناس، مع ضحايا الزلزال، بغض النظر عن خلفياتهم وميولهم، فهناك ما يمكن ان نطلق عليه باليقظة الإنسانية والتحرر من مفهوم الأنا وحدي. ولم يختصر أمر تحطيم الحواجز السياسية بين الدول ذاتها، بل تعدى ذلك إلى تحطيم الخلافات والنزاعات الجانبية بين الأحزاب والجهات السياسية داخل البلد الواحد، على الرغم من حدة الخلافات العميقة بين تلك الجهات، وضمن هذا السياق جاءت دعوات الكثير من المنظمات غير الحكومية إلى عدم تسييس المساعدة الإنسانية التي تُقدم إلى البلدين المنكوبين تركيا وسوريا. ومع وجود هذه الإشكاليات ذات الطابع السياسي، يُثير العمل الإنساني بما يمثله من سلوك حضاري تأملات كثيرة بشأن قدرة البشرية على تأسيس أخلاقيات تحكم هذا النشاط الحيوي وتحدد اتجاهاته. لذا على جميع الأنظمة السياسية بمختلف توجهاتها العقائدية والسياسية، ومن يهمه أمر هذا الكوكب، استغلال هذه الفرصة التاريخية، والاستفادة من الدروس والعبر التي خلقتها هذه الكارثة الإنسانية للعمل بالاتجاه الصحيح وتغليب المصالح العليا للشعوب والأمم على المصالح الذاتية.