رعد اطياف
تجرع العالم جحيم الحربين العالميتين بسب الصراع على النفوذ بين ألمانيا وروسيا وبريطانيا وفرنسا، وكانت نتائجه دماً ودموعًا دفع ثمنه ملايين القتلى من كل الأطراف المتحاربة. أن العالم يخضع لشريعتين: شريعة القانون الدولي المعروف، وشريعة الدول العظمى المتمثل بـ «المجال الحيوي»، الذي يبيح لهذه القوى تقسيم العالم طبقاً لنفوذها وما يعزز أمنها القومي. ما أن تتحول بقعة جغرافية ما إلى مركز حيوي يعزز نفوذ القوى العظمى، فسيُنَحّى القانون الدولي جانبًا بطرق احترافية تضمن شرعيتها وغزو العراق شاهد على ذلك.
بالنسبة للاجتياح الروسي لأوكرانيا، لا يتعلّق الأمر بـ»محبة» روسيا، ذلك أن معظم هذا الحب المزعوم يخفي وراءه انحيازات أيديولوجية. وكذلك ينبغي ألا يذهب ذلك الانحياز تجاه الولايات المتحدة انطلاقاً من نموذجها، الذي يعد أكثر إغراءً من النموذج الروسي، كونه يتمتع بحوافز كبيرة.
ينطبق الأمر على الأشخاص كما ينطبق بنحو مماثل على الدول؛ ينبغي ألا نعزز ميولنا الايدلوجية لتبجيل الرئيس الروسي بوتين، فهذا الأخير مدعوم من قبل نخبة مليارديرات فاسدين. والرئيس الأميركي ليس بأفضل حال من هذه الناحية نسبياً؛ فإذا تعلق الأمر بالأمن القومي، أو ما يسمى بـ»المجال الحيوي» فتسقط كل اعتبارات القانون الدولي، مثلما حدث في العراق، ومثلما حدث في أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962 حيث كاد العالم أن يشتعل بحرب نووية، لأن الولايات المتحدة شعرت بتهديد وجودي يزعزع أمنها القومي.
حتى لو كانت كوبا دولة عضو بالأمم المتحدة ويحق لها أن تعقد اتفاقات أمنية مع من تريد، لكن الولايات المتحدة اعتبرت ذلك تحدياً سافراً يهدد أمنها الحيوي.
إذن، وبصرف النظر عن كل الاعتبارات، والشرائع الدولية المتفق عليها، تشكّل أوكرانيا مجالاً حيويًا لروسيا، وثم شبه اتفاق دولي، على تحييد أوكرانيا وعدم انضمامها لحلف الناتو، فاعتبرت روسيا محاولة انضمام أوكرانيا لهذا الحلف تهديداً لأمنها القومي، وستتدخل روسيا وتدافع بكل الوسائل، حتى لو تطلب ذلك خراب أوكرانيا وتدميرها كلياً، مثلما كاد أن يحدث بالضبط في الأزمة الكوبية.
أوكرانيا ضحية المجال الحيوي، وضحية نفوذ الدول العظمى، والثمن الذي ستدفعه، ما لم تصل القوى العظمى إلى اتفاق يضمن أمن روسيا القومي، فستكون دولة غير قابلة للحياة، وستغدو عبارة عن نقطة باهتة في الخارطة العالمية، أللهم إلا إذا أصرّ حلف الناتو إلى مواصلة هذا التحدي إلى أقصى مدى ممكن لاستنزاف روسيا، لكن تبقى أوكرانيا وشعبها وحدهما من يدفعان الثمن الأكثر كلفة على الإطلاق.