الامتداد الحضاري.. الهويَّة المنسيَّة

آراء 2023/03/12
...

 ا.د. عماد مكلف البدران


ما أن تحط بك الطائرة في مطار شيراز المدينة الايرانية التاريخية الحضارية، وما أن تجتاز الممرات والقاعات استعداداً لمغادرة المطار، حتى تثار في رأسك مجموعة تساؤلات عجيبة، لا سيما اذا ما كنت تنتمي إلى طبقة مثقفة أو نشطة الوعي والملاحظة، أو ممن له قراءات للوضع ولتاريخ هذا البلد،


فحينها ستجذبك وتشد ناظريك مجسمات كبيرة واضحة لأعمدة رُكبت بعناية فائقة على جدران القاعة الرئيسة للمطار، التي ربما يصل ارتفاعها العشرين متراً، وهي صورة طبق الاصل لتلك الأعمدة الرخامية التي كان طرازها سائداً في حقب ما قبل الميلاد، هذه الاعمدة امتدت طولياً مع الجدران، وهي تشد الانظار بلونها الذهبي، فما أن تراها تتذكر الأعمدة الرخامية الإغريقية، التي سيطرت على ديكورات معظم الأفلام التاريخية، إلا أن ما يميزها وجود مجسم لثور مجنح بدا صغيرا،ً مقارنةً مع الثور المجنح في الحضارة الآشورية العراقية (شيدو لاموسو)، وكأنه حط على رأس العمود الرخامي بهيأة الجالس المستقر، الذي اصبح قطعة من العمود، اذ غارت أطرافه السفلى برأس العمود، وأصبح جزءاً منه ليقدم ابداعاً فنياً، حاول فيه مهندس التصميم ايصال رسالة، أن حضارة شامخة كانت هنا قد اعلنت وجودها اليوم، وستعلن في بعثٍ حضاري جديد، وهي حضارة كورش الملك الأخميني الفارسي، وهنا اقف لاختار أنموذجاً اخر، فمثل ما تشهد ايران اهتماما برموزها الحضارية، تشهد المملكة العربية السعودية ذلك، اذ بدا اهتمام الامير محمد بن سلمان ولي العهد واضحاً وجلياً من خلال تشجيع البعثات الاثارية التنقيبية، التي وصلت المملكة لتكمل ما بداته البعثات السابقة مع توسع شامل في اغلب مناطق نجد والحجاز، وفي أبعد المناطق وهي تقتفي اثر الاقوام السالفة، وتحاول اخراج ما اختفى في باطن الارض، ويبدو جلياً دعم الحكومة السعودية التي اخذت تروج بشكل لافت للنظر لأثار المملكة القديمة وتُقيم المهرجانات، وتدعو شعوب العالم إلى زيارتها ومشاهدة عظمة الابداع العربي وامكانياته، التي اسس فيها لحضارة كانت شامخة يوماً ما، ليأتي الاسلام العظيم ويصبغها بصبغته الروحية، ونشاهد عبر القنوات الفضائية السعودية وملحقاتها العربية دعوات لمهرجانات ثقافية حضارية تتغنى بأمجاد هذا التاريخ، فما هو المغزى من هذا العرض؟ لا يخفى على القارئ والمهتم بالشأن السياسي والمحلل المتابع مدى نفوذ هاتين الدولتين في بلدنا العراق، وهما في طبيعة الحال جاران تربطنا بهما أواصر دينية وعرقية وحضارية تاريخية، فضلاً عن جيوسياسية، ولا يخفى على المطلع مدى تدخلهما الذي تنوعت ادواره بين طالح وصالح، وكيف تبادلاا الادوار ومازالا يلعبان في ساحتنا، وقد قدمت الدولتان صورة ذات مغزى واحد، على انهما دولتان اسلاميتان على وفق اعتناقاتهما المذهبية المعروفة، وانهما ينتميان إلى الاسلام الاصولي إن لم نقل السياسي، ومن المفروض أن تكون كلتا الدولتين بعيدتين عن التوجهات القومية والعرقية، التي تهتم بالبعث القومي وتنمي الشكل الحضاري الخاص بكيانهما، الذي يعد شكلاً ضيقاً وانانياً في مبادئ الاسلام وقيمه، لكنهما على ما يبدو تمارسان هذا التوجه، فقد ركز عليه شاه ايران الاسبق محمد رضا بهلوي، كون دولته كانت ذات متبنيات قومية، ويظهر أن نفساً جديداً من هذا القبيل قد بدأ ينمو 

بجسد الدولة الاسلامية الايرانية، ومثله بدأ ينمو في جسد المملكة السعودية، التي كان قادتها الاسلاميون ورجال الدين فيها يرفضون ما اسموه ببقايا الاصنام والأوثان، من أن تبعث من جديد في بلاد الحرمين، ربما تكون رؤيتي قاصرة وأن هدف الدولتين هو الجذب السياحي، لكن أجد ان طبيعة الاهتمام لديهما والدعم، قد يقودنا إلى استنتاج خطير، أن بعثاً قومياً واعتزازاً بهوية ربما يحتضنه متطرفون سيتنمر على حضارة وادي الرافدين ويعيد تحديه لها، أو ربما يسعى إلى تهميشها، ومن هنا ادعو إلى الاهتمام بتنشيط كل الابعاد التاريخية والحضارية العراقية، وهي الاقدم والاهم، لا لكي نخوض صراعاً وجودياً حضارياً فحسب، بل لنعلن رغبة في الحوار، ونحن متميزون بكياننا ووجودنا، كما فعلوا هم وسيفعلون ولتؤمن هذه الاجيال بحضارتها، ولتعي جيداً انه وكما يهتم الاخرون بهويتهم وجذورهم علينا ان نهتم نحن بذلك، ويجب ألا ننجرف بما يقدموه لنا من صراعات وننجر لتُلهينا وتبعدنا عن انتمائنا الحقيقي كما يفعلون هم، إذ يركزون على أدوات

وجودهم.