مفارقات المثقف المؤدلج وفخ {الهجنة} الأيديولوجيَّة

آراء 2023/03/12
...



 ثامر عباس


بداية نود الإشارة إلى أن ظاهرة (التأدلج) لدى المثقفين العرب عموما»والعراقيين خصوصا»، لا تبدو كما لو أنها (مرض) فكري يصاب به كل من يتعاطى مع منتجات الفكر ومعطيات الثقافة - إنتاجا»أو استهلاكا»- وإنما هي ظاهرة تكاد تكون (طبيعية)، بل و(مشروعة) ضمن بعض الظروف الخاصة والسياقات المعينة، التي تحتم على الإنسان الانخراط فيها والتفاعل معها والاحتكام إليها.

ولكن برغم كونها تتمتع بهذا الضرب من الحجج التبريرية والتعليلات التسويغية، إلا أنها سرعان ما تتحول إلى (النقيض) في ذات اللحظة، التي تتخطى فيها الأطر المقبولة اجتماعيا»المعقولة معرفيا»، بحيث تبدو من خلالها مواقف المثقف المقصود وسلوكياته عبارة عن سلسلة من المفارقات والتناقضات التي تفضحه وتدينه. 

وقبل أن ندلف إلى رواق الموضوع، حري بنا إحاطة القارئ الكريم بما نعنيه بعبارة (المثقف المؤدلج) الواردة في عنوان المقال، إذ من المحتمل – بل والمتوقع - أن يتبادر إلى ذهنه أن اقتران مفهوم (الأدلجة) بشخص ما، لا بدَّ أن يعني أنه يضمر بين ثنايا وعيه أطيافاً (أيديولوجيا) معنية، كما انه لا يعدم التعبير عنها قولا»وسلوكا»إزاء (أيديولوجيا) الآخر. 

وهذا ما نعتقد أنه الفهم الشائع لمعنى (التأدلج) لدى الغالبية العظمى من عامة الناس، لا بل وخاصتهم أيضا». 

ولعل هذا الرأي أو التصور وإن بدا أقرب إلى الواقع منه إلى الافتراض، فهو ليس سوى نتاج بيئة فكرية – ثقافية عملت مجموعة من الأيديولوجيات الراديكالية (المتحزبة) على تكريسه في الوعي الاجتماعي التقليدي، عبر شطر - بل قل تشظية – مكونات تلك البيئة الاجتماعية إلى أجزاء متباغضة وأقسام متكارهة، لا تجمع بينها رابطة سوى علاقات التنازع للسيطرة على مصادر القوة السياسية والتصارع على موارد الهيمنة الثقافية، وفقا»لطروحات الفيلسوف الايطالي (أنطونيو غرامشي)،/ الذي أظهر خلالها أهمية هذه الأخيرة في مضمار التحكم بالمسارات والاتجاهات والقيادة للمؤسسات والجماعات. 

والحقيقة أن ظاهرة (التأدلج) التي يعاب عليها بعض المثقفين على نحو اعتباطي وبلا تحفظ، لا يجب أن تشكل (إدانة) أخلاقية يدمغ بها هذا المثقف أو ذاك، كما لا ينبغي أن تعتبر (تهمة) ثقافية يستحق عليها الاستهجان والاستنكار دائما»، من حيث أن كل فاعل اجتماعي سوي لا مناص من حمله (تصورا) خاصا أو (رؤية) معينةـ إزاء ما يطرحه الوقع القائم من تفاعلات وما ينتجه المجتمع المعيش من صراعات.

وعلى هذا الأساس نجد أن كل ما يستبطنه الإنسان من أفكار وتصورات وتمثلات، غالبا ما تكون موسومة بسمات ذلك الواقع ومطبوعة بطابع ذلك المجتمع، مهما حاول ذلك الإنسان (المثقف) النأي بنفسه عن تأثيرات هذا أو ذاك والتمظهر بمظاهر الحيادية والموضوعية.

طبعا مع الأخذ بنظر الاعتبار واقعة أن تلاوين تلك (التصورات) و(الرؤى) بين الأفراد والجماعات، لا تعدو أن تكون انعكاسا «جدليا» لطبيعة الانقسامات الاجتماعية والاختلافات الثقافية والتنوعات الحضارية، التي لا تفتأ تتمفصل وتتفاعل في إطار وحدة السيرورات والديناميات الفاعلة في بنى المجتمع الكلي. 

والحال أن ما نقصده بمفهوم (الأدلجة) الذي يخشى على المثقفين الانخراط في أتونه والوقوع في مصائده، ليس هو المعنى المراد منه الدلالة على (الايديولوجيا)، من حيث كونها مجموعة أفكار وتصورات، كوّنها المجتمع عن طبيعة كيانه وصاغها عن تاريخ جماعاته، عبر أنماط متعددة ومتنوعة من البنى الذهنية والأنساق الثقافية والتمثلات الرمزية. 

وإنما المقصود هي تلك الحالة أو الظاهرة المعبرة عن (التداخل) أو (التخالط) بين عناصر مجموعة من الأيديولوجيات المتناقضة والمتعارضة، التي يستبطن مضامينها هذا المثقف أو ذاك ضمن محزون (اللاوعي)، سواء بالنسبة لتعدد الأيديولوجيات المحلية الخاصة بالجماعات الداخلية الاثنية أو الطائفية أو المناطقية، أو بالنسبة لتنوع مشارب الأيديولوجيات الأجنبية الخاصة بالمجتمعات الخارجية الغربية منها والشرقية.

أي بمعنى أن المثقف يكون عرضة للوقوع في شرك (التهجين) الأيديولوجي متى ما تجاهل الفواصل النوعية القائمة بين طبيعة ونوعية سرديات تلك الإيديولوجيات (أفكار وتصورات وقيم)، فضلا»عن الإصرار في محاولات تسويغ عمليات هذا الضرب من السلوك الذهني النكوصي، كلما أشعره (الوعي) بعواقب الانسياق خلف هذا المسلك الارتدادي. 

والجدير بالملاحظة أن الغالبية العظمى من المثقفين (المؤدلجين) قد لا يشعرون أو لا يعون قيامهم بهذه الممارسة الذهنية/ الفكرية، كونهم لبثوا خاضعين لفترات طويلة لسلطان (النسق الثقافي) التقليدي، الذي ولدوا في إطاره وتغذوا على قيمه وتمثلوا رموزه واحتكموا إلى تواضعاته. 

لا بل أن هناك من تصل بهم ردّة الفعل إلى حدّ إلصاق هذه التهمة بأقرانه الآخرين، كما لو أنه مبرأٌ منها وبعيد عنها، وهو الأمر الذي خاله أستاذ اللسانيات الانثروبولوجية في الجامعة المستنصرية (جواد كاظم التميمي) في إحدى دراساته الممتازة؛ بمثابة (نشوة نرجسية بالغة للمتكلم العراقي، بحكم الرغبة اللسانية العراقية المعتادة في تضخيم الذات، لكنها – في حقيقة أمرها – مورفيم مشفّر بقدر هائل من سيميائيات الخراب العراقي، وتحيل بشكل مؤكد – كما نرى – على مضمرات نصية مؤلمة، من دون أن يعي المتكلم العراقي ذلك).

ولذلك تراه ينشط في كيل النقد «يمينا ويسارا»، دون أن يلاحظ حالة (الازدواجية) التي تأسره بفتنتها، وتحول دونه والوقوف على حقيقة كونه لا يختلف بتاتا- إن لم يكن أسوأ منهم - عمن يكيل إليهم النقد (الحداثي وما بعد الحداثي)، ومن ثم لا يتورع برميهم بتهمة الانخراط بتلك الظاهرة المستهجنة معرفيا»وأخلاقيا»، متوخيا»بذلك الحفاظ على توازنه النفسي واعتباره الاجتماعي. 

ومن جملة مساوئ (الهجنة الأيديولوجية) أنها تحيل (المثقف) المصاب بلوثتها إلى فاعل اجتماعي شديد (النفاق) ومفرط (الانتهازية)، بحيث لا يتورع من تبرير كل شيء وتسويغ أي شيء، طالما أن هذا الموقف يصب في مصلحته ويحقق له مآربه، معتمدا»بذلك على آلية (التقمص) اللاشعوري التي تبيحها ظاهرة (الهجنة) في اختيار ما يتناسب مع الحالة أو الموقف من أفكار أو تصورات، حتى وان بدت - على مستوى بنية الوعي - متناقضة في طبيعتها ومتعارضة في توجهاتها.

ولعل ما يعزز وجود هذه الظاهرة في أوساط (النخبة المثقفة)، فضلا»عن توطن قيمها وتمكن أعرافها وتشرعن سلوكياتها، إن الحاضنة الاجتماعية التي تنشأ تلك النخبة بين ظهرانيها وتجتاف قيمها وتحمل مواريثها، لا تفتأ تحافظ على ثبات (أنساقها الثقافية)، التي تطاولت عليها الآجال وتعاقبت ضمنها الأجيال دون أن تفقد حضورها في الوعي الجمعي وتضعف آثارها في السلوك الجماعاتي، للحدّ الذي يمكن اعتبارها مكونا أساسيا – لا بل مسيطر - من مكونات البنية العميقة والمؤسسة (لسرديات) المجتمع الكبرى في مجالات الجغرافيا والدين والتاريخ والثقافة والهوية.