ابراهيم العبادي
حدثان كبيران كان لوقوعهما أثرٌ زلزالي كبير على الإسلاميين العراقيين الشيعة، كما على غيرهم، الحدث الأول كان انتهاء الحرب العراقية الايرانية 1988 ثم وفاة زعيم الثورة الاسلامية السيد الخميني 1989، وانتهاء العشرية الاولى من عمر هذه الثورة ودخول إيران مرحلة جديدة في تاريخها مع تحولات تدريجية في خطابها ورؤيتها لذاتها وانبعاث روحها الوطنية والقومية المختلطة بالمذهبية.
والحدث الثاني المهم كان احتلال نظام صدام للكويت وما تلاه من مضاعفات ادت إلى هزيمته العسكرية الماحقة وتدمير العراق، وانقسام عميق بين التيارات الاسلامية السنية، كان لاندلاع الانتفاضة الشعبية العراقية ردٌ على الهزيمة والانكسار والتدمير، الذي تعرض له العراق بسبب سياسات النظام وغروره الاجوف، وانحياز تيارات دينية واسعة في عموم المنطقة لرؤية النظام وشعاراته، كان لهذه التطورات المتسارعة وقع شديد التأثير، وفي جميع المناحي، فمثلما كانت لهزيمة الانظمة العربية امام اسرائيل عام 1967 صدمة فكرية وسياسية وشعورية، أنتجت تحولات في الخطاب والرؤية وانقسامات أيديولوجية وسجالات بين التيارات القومية والماركسية والدينية واحدثت اصطفافات جديدة، فإن الاحداث التي أشرت اليها، أعادت طرح سؤال الهوية الوطنية في أوساط الاسلاميين الشيعة العراقيين، فقد استقبلت ايران عشرات الآلاف من النازحين الجدد من جنوب العراق بعد فشل الانتفاضة، وجاء هؤلاء يبحثون عما كانوا يفتقدونه من حماية وما يحلمون به من طموحات وتعاملات وتوقعات يزخر بها المخيال الاسلامي الشيعي، وقد أسهم الخطاب الاعلامي والسياسي الايراني الثوري خلال تلك المدة وترسبات الثقافة الاجتماعية المذهبية المحلية في ترسيم صورٍ مثالية غير واقعية انتهت بصدمة شعورية كبيرة، فاذا كان الإسلاميون الإيرانيون وكذا الاسلاميون السنة عربا وغير عرب يفكرون في مصالحهم الوطنية والقومية، دون أن يقدح ذلك باسلاميتهم ومذهبيتهم، ولا يجدون في ذلك حرجا شرعيًا ولا تناقضًا مفاهيميا أو قيميا؟ فلماذا يذهب العراقي بعيدا في أمميته الاسلامية ومثاليته المذهبية وحماسته القومية العروبية؟، وفي جميع هذه الاستجابات الفكرية كان العراق ولا يزال مسرحا وصدى لأفكار وتيارات تتأسس على أرضه، ويندفع العراقيون في مثالية مفرطة وواقعية مفقودة يعيشون عالم الافكار والمثل دونما حساب لكلف هذه المشاريع وجدواها على حاضرهم ومستقبلهم، أكل ذلك امتداد للشخصية التاريخية العراقية المسكونة بعالم المثال والخيال والمفعمة بالمشاعر الساخنة والاستعداد الكبير للموت والتضحية في سبيل ما تؤمن به من افكار ونظريات؟ أم أن لذلك أسبابا اجتماعية وسياسية مرتبطة بطبيعة الأحداث، التي مرت وتمر على العراق؟ لسنا في وارد الحديث عن شخصية العراق والعراقي الحضارية وتأثيرات الافكار في المكان والزمان وانعكاساتها النفسية والثقافية والسياسية، انما الحديث عن دور الفكر وتحولات السياسة والاقتصاد واصداء الصراعات الدينية والمذهبية في تنمية وتغذية أفكار وتراجع أخرى.
في نهاية تسعينات القرن المنصرم كان امام الحركة الاسلامية الشيعية العراقية الإجابة على اسئلة كبيرة لم تتفرغ لها فكريا، لكنها فرضت نفسها عمليا وسياسيا، سيما بعد انفتاح العالم على محنة العراق وصيرورته ساحة تجاذب اقليمي ودولي حاد، كان على العراقيين أن يعيدوا اكتشاف ذواتهم السياسية وتعريفهم لأنفسهم وصياغة مشروعهم السياسي الخاص، فهل يقدمون انفسهم جزءا من عالمية اسلامية تقودها ايران الاسلامية الشيعية في عالم متوجس منها ومن مشروعها؟ أم جزء من عروبة قومية متراجعة ومفككة ومنقسمة؟ أم بوصفهم عراقيين ذوي انتماء وطني، يتنوعون في انتماءاتهم الفكرية، لكن تجمعهم هوية العراق الوطنية وشخصيته الحضارية وروحه التاريخية ومصلحته الذاتية؟.
لقد جرب العراقيون اندفاعات كبرى في تاريخهم الحديث، اكتشفوا لاحقا أنها متسرعة وذات حمولة فكرية وسياسية واجتماعية باهظة وخسارات لا تقدر بثمن، لقد اندفعوا مع المشاريع الكبيرة ونسوا خصوصيتهم وذاتيتهم ومصالحهم التي ينبغي أن تكون لها الأولوية، كان يعاب على شيوعيي العراق ارتهان قرارهم السياسي بمظلتهم الأيديولوجية ومركزية الاتحاد السوفييتي ومصالحه وسياساته، ثم اكتشف القوميون أنهم ضحوا بمصالح العراق وأمنه واستقراره ودخلوا في موجات من الصراعات تحت أوهام الوحدة القومية، فحصد المصري والسوري وغيرهم من العروبيين الصدارة ولعق العراقيون الخيبات والذيلية والتلاعب في مصير بلادهم، دونما مكاسب حقيقية للمشروع الحلم، وفهم بعض الاسلاميين متأخرين أن ذوبان المشروع الاسلامي العراقي بدواعي الولاية والمركزية الدينية والأفكار الطوباوية ضرب من التهويم والخيالات والعيش في فكر سابق على افكار الدولة الحديثة، فحيث اختلفت المصالح بين الجماعات والشعوب والدول، ولدت مفاهيم السيادة والهوية الوطنية والامن القومي والمجال الحيوي ودولة الأمة.
قد يقال إن المفاهيم الحديثة لا تمتلك إصالتها ومشروعيتها الدينية وإن الوفاء للمبادئ الإسلامية، ومقاومة منتجات الفكر الغربي هي ما يمنح (الاسلامي) أصالته الدينية ونقاءه وانتماءه إلى الأمة والدولة العقائدية والولاية الشرعية، وهي من أساسيات المشروع السياسي الإسلامي الحديث، وقد يقال أيضا إن الشعور القومي والهوية القومية، لا يلغيان الانتماء القطري والخصوصية الاقليمية، لكن الوحدة القومية هي الوعاء السياسي الذي ينبغي الالتزام به، فالرابطة القومية شعور نفسي واجتماعي وانتماء وهوية، كل هذا الحجاج مفهوم ومتوقع في عالم الجدل الفكري والتأصيل النظري، لكن ضرورات الواقع وأحكامه تفرض مراجعة جادة لتبيان الحقائق والعيش في عالم الواقع وليس عالم المثال، الذي جعل العراقيين ضحية تقاطع مصالح الاخرين وصراعاتهم القومية والمذهبية من قوميين ويساريين ودينيين وعلمانيين وانعزاليين
وأمميين.