حكاية مقهى

الصفحة الاخيرة 2023/03/14
...

حسن العاني

القراءة السريعة للمقاهي العراقية منذ مئة سنة تقريباً، تشير إلى أن التطورات أو التغيرات التي طرأت عليها كانت قليلة وربما نادرة، وفي العادة تجري بصورة بطيئة، ولعل السنوات الأخيرة هي الوحيدة التي تميزت بالسرعة بعد غزو السموم القاتلة المعروفة باسم (الأراجيل) لمقاهي الرجال والنساء، والمراهقين، والصبيان. على أن التطور الوحيد اللافت للنظر هو ولادة مقاهي النساء التي شهدت تطوراً آخر شديد السرعة متمثلاً بولادة (المقهى المختلط) الذي يضم الجنسين، وهو تطور أكدت فيه المرأة قدرتها على منافسة الرجل والتغلب عليه حتى في ألعاب النرد والدومينو والورق والضحك بصوت يعلو صوت الرجال!.

بعيداً عن هذه الصغائر حافظت المقاهي العراقية بصورة عامة على أنواعها الثلاثة المعروفة، وهي (مقهى الطرف) الذي يرتاده رجال وشباب المحلة بصورة عامة، وهؤلاء الرواد لا ينتمون إلى حرفة أو مهنة معينة كما هو الحال في النوع الثاني من المقاهي التي يمكن وصفها بالمتخصصة كتلك التي يشكل (مربو الطيور) مثلاً نسبتها الأعظم، أو مقهى عمال البناء، أو الطلاب، أو الرياضيين، أو السواق.. الخ، وأخيراً هناك النوع الثالث الذي يوصف بأنه عام ورواده يمثلون شتى الشرائح... الخ، في ظل هذه التوزيعات احتلت مقاهي (المثقفين) مكانة متميزة وخاصة جداً، وربما كان العقد الستيني من القرن الماضي هو الأبرز وضوحاً لهذه المقاهي، خاصة من حيث أهميتها، لأن الثقافة هي التي قادت السياسة، وفرضت هيمنتها المطلقة على الشارع السياسي . 

على المستوى الشخصي لم أكن معنياً بلغاوي الثقافة والسياسة وتناحراتها، فمنذ أن أحلت نفسي على التقاعد وأنا ألازم مقهى المتقاعدين لا أبرحه، وكنت أتابع أخبار التقاعد عبر الآخرين الذين يتشممونها بنشاط يحسدون عليه، مثلما كنت أتابعها عبر التلفزيون أو الصحف أو الأخبار المفبركة!.

ذات مرة وأنا منشغل بلعبة الدومينو التي أهتم بها أكثر من اهتماي براتبي التقاعدي المخجل، عقد أحد الحضور – وهو رجل يوصف بالخبرة القانونية العالية في مجال القضايا التقاعدية –  لرواد المقهى بناء على طلبهم ندوة مفتوحة، للإجابة على أسئلتهم، وعلق في ذهني قوله: إن الكلام عن أية زيادة في رواتب المتقاعدين له شرطان هما (ارتفاع أسعار النفط العالمية، وزيادة كميات النفط العراقي المصدر إلى الخارج)، وقد سأله أحدهم: ماذا لو لم ترتفع الأسعار؟ وماذا لو لم يرفع العراق صادراته النفطية؟! وسأله الآخر: لو انخفضت أسعار النفط، هل تنخفض رواتب المتقاعدين؟ وسأله أحدهم سؤالاً شخصياً [ما معنى أن يكون راتبي التقاعدي 490 ألف دينار وخدمتي 24 سنة وحاصل على البكالوريوس، بينما الراتب التقاعدي للمسؤول الفلاني هو 80 مليون دينار وخدمته 4 سنوات فقط وشهادته مثل شهادتي؟!]، وقبل أن يتوجه شخص آخر بسؤاله، أطلق الخبير ضحكة ارتجت لها جدران المقهى ثم غادر المكان مسرعاً وهو يضحك بدون توقف، وزعم أحدهم أنه التقى به بعد 6 أشهر وهو يتكئ على سياج جسر الشهداء، ويحدث نفسه!.