محمد الحداد
ابتداءً يتحتمُّ عليَّ أن أبيّنَ مَن هو المثقف المتصومع الذي عنيتهُ بعنوانِ هذهِ المقالة؟ ووفقَ أيةِ آليّةٍ نقديّة اعتمدتُ في تقييمي لهُ؟
وللاجابةِ عن ذلك أقول أنني لم أتعرض لمفهومِ المثقفِ المتصومع وفقَ نظرياتِ الأنثروبولوجيا أو السيسيولوجيا التي تعتمدها المناهج النقدية الأكاديمية المعروفة.. لكني اخترتُ بدلاً من ذلك أن أبحرَ في رحلةِ كشفٍ واستكشاف اعتمدتْ تفحص مُجملِ المشهدِ الثقافي العربي بزاويةِ نظرٍ واقعية حرصتْ على الاقترابِ أكثر طمعاً في التقاطِ صورةٍ واضحة لهذا المثقف تمهيداً للخروجِ بتوصيفٍ أنطولوجي لهُ لا يخلو من انطباعيةٍ سايكولوجيةٍ مُبسطة وذلك حسب آليّة تعاطي هذا المثقف مع الواقعِ والسُلطةِ والتاريخِ وحركةِ الشعوبِ والمجتمعات.
أما بمعرض التعريف بالمثقفِ المتصومع فبوسعنا القول إنهُ أحد النماذج الشائعة في مجتمعاتنا العربية المعاصرة.. كما أنهُ أحد أكثر ضحاياها أيضاً.. لأن السُّلطة التي أدمنتْ مصادرة العقول واعتقال الكلمات واحصاء الأنفاس ومحاكمة النوايا والأحلام كانت تسوّلُ لنفسها دائماً أن تنتجَ وتسوقَ هذا المثقف إلى المجتمعِ بقالبٍ جاهزٍ كان يختزلهُ دائماً في صورةٍ بائسة يبدو فيها محض كائنٍ غريب ينبغي عزلهُ مجتمعياً ومقاطعتهُ والاحتراس منه.. ومع الوقت فقد تم بالفعل انضاج مزاجٍ جمعيٍّ عام أصبح ينظرُ لهذا المثقف بهيئةِ انسانٍ سلبي عدمي عبثي متصومع ومتلفع بجلبابٍ طوباوي حالم.
والحقيقة أن ذلك الطوق السلطوي لم يسهم وحدهُ في عزلِ هذا المثقف عن الحياة لأن هذا المثقف وكردِّ فعلٍ على ذلك ضربَ حول نفسهِ طوقاً اضافياً مُحكماً من العزلةِ الاختياريةِ الخانقة.. ونتيجة لذلك فقد أصبحَ من المألوف جداً أن يبدوَ هذا المثقف للجميع وكأنّهُ بالون منتفخ أبداً.. بمعنى أنهُ أسهمَ بنفسهِ في ترسيخِ وترويجِ تلك النظرةِ السلبية التي تراهُ على الدوام بهذهِ الشاكلةِ الغريبة.. عدا ما اعتادَ أن يتبناهُ غالباً من مواقفَ كولونيالية استعلائية تجاهَ مجتمعهِ في أكثر القضايا التي تشغلُ هذا المجتمع.. بل أنهُ زادَ من طينةِ كل ذلك بَلةً حينما لم يعد يعبأ أبداً بكل ما يُلصقُ بهِ من شبهاتٍ اضافيةٍ تشبهُ ذنوباً لا براءةَ منها وأوزاراً يحلو لهُ ألا يُنكرها بل يُزيّنُ لهُ غرورهُ الاعترافَ بها أحياناً.. كما أنهُ لم يكن يخفي سخريتهُ باستمرار من أيةِ ناستولوجية مجتمعية يحلو لها أن تُديرَ رأسها نحو الماضي كلما دعت الحاجة لذلك.. لأنهُ آمنَ أن أية التفاتةٍ إلى الوراء مهما كانت تُعدُّ نكوصاً سلبياً نحو الحضيض.
غير أن عزلتهُ هذهِ لم تمنعهُ أبداً من الكلام فهو كائنٌ جدليٌّ بامتيازٍ حدَّ الثرثرة السلبية العقيمة.. لا يفتأ فمهُ يزبدُ ويرغو بوهيميةً وعبثاً وصعلكةً يؤثثها للفراغِ والعدم.. ولأن القلقَ والشكَ والتخوين هي أنفس بضائعهِ وبسبب احباطاته المتراكمة وبراعته في جَلدِ نفسه أيضاً فقد تعودَ أن ينأى بنفسهِ بعيداً عن فوضى المواقفِ التي تفرضها أحياناً تبعية تمترساتِ اللعبةِ السياسية.. خاصة عند المفترقاتِ المصيريةِ الكبرى حينما تبدو الظروف حالكة وملتبسة تماماً إلى الحد الذي يكون الوصول فيهِ إلى قراراتٍ حكيمة من أصعبِ الخيارات.. وربما كان خيارُ الانسحابِ اليائسِ هذا آخر القلاعِ التي تَحصَّنَ هذا المثقف بقلاعها وتبناها قسراً لضمانِ الحفاظ على نظافةِ اسمهِ وتاريخهِ مدّعياً الرضى التام بخيارِ حياديتهِ الآمنة ومحاولاً قطف ثمار استقلالية
المواقف.
لكن العالمَ كلهُ يعدو بسرعةٍ جنونيةٍ لايمكن لأحدٍ اللحاق به.. فكل شيءٍ على ظهر هذا الكوكب يطالهُ التغيير والعبث.. لم تعد الأحداثُ تعرفُ الثباتَ والسكونَ أبداً.. والجميع يتفاعلُ مع ذلك كلهِ ويعبّرُ عنهُ ربما بسرعةِ الحدثِ نفسه.. لكن في غمرةِ كل تلك المتغيرات الحاصلة وذلك التسارع الجنوني الساخن في الأحداث وفي خضم ذلك الخراب والدمار الذي تخلفهُ الحروبُ والصراعاتُ في كل مكان يفاجئكَ هذا المثقف المتصومــــع برتابةِ مواقفــهِ التي لا تحرّكُ سواكنهُ ولا تستفزُّ هدوءهُ أبداً.. لايكادُ يقضُّ مضجعهُ سفك الدماء ولا تهزهُ مشاهد حصد الأرواح التي تُزهق هنا وهناك.. كأنهُ لم يعد يعبأ فعلاً بكل ما يحدث ويريدُ أن يثبتَ للجميع غرابتهُ
وتغايره.
بهذا الانسحابِ النكوصيّ الغريب وصلَ هذا المثقف إلى حدِّ التكيفِ مع الاعترافِ اليائسِ بترفِ الاعتكافِ وادمانِ سَكرة اعتزالهِ المزمن داخلَ أبراجهِ الرومانسيةِ المعتمة.. ويبدو أنهُ اقتنعَ بأن قدرهُ يكمنُ في ولوجهِ الأبدي لمغارةِ تغايرهِ التي لا أملَ في خروجهِ منها أبداً.. كأنهُ مع الوقت زهدَ بكل ما حولهُ وأدمنَ عزلتهُ هذهِ وتكيفَ أن يبتكرَ فيها ظلامهُ بنفسهِ واختارَ أن ينامَ ملء جفونهِ متوسّداً أحلامهُ التي يوثثُ فيها مجدهُ بأوهامهِ الصغيرة التي تكفيهِ وتسلي وحدتهُ لأنهُ يظن أنهُ سينجو معها من براثنِ هذا العالم الوضيع.. وبرغم ما يبدو ظاهراً من غرابةٍ شديدةٍ في توصيفِ هذا المثقف المتصومع لكن الحقيقة أنه موجودٌ بوفرةٍ مُخزية على أرض
الواقع.