ديريك والكوت.. طقوس التحضير لولادة قصيدة

ثقافة 2019/04/13
...

عبدالزهرة زكي
 
 
يفضّل ديريك والكوت التأكيد على أن طقس كتابة الشعر بالنسبة إليه هو أقرب إلى الصلاة. يقول والكوت، في حوار مهم أجري معه، بهذا الشأن:” لم أفصل أبداً كتابة الشعر عن الصلاة. لقد نشأتُ مؤمناً أنه، (أي الشعر)، نداء باطني، نداء ديني”.
كان والكوت بهذا يتحدث عن طقوس الكتابة الشعرية بالنسبة له، عن ظروف ولادة قصيدة ومراسيم حدوثها وتكوّنها، لكن هذا ليس بالبعيد عن طبيعة أهداف الشعر لديه والموضوعات الأثيرة في اهتمامه الشعري حتى وهو ينتهي بتجربته إلى اهتمامات لها صلة بالهوية أكثر مما تمت بصلة للاعتقاد الروحي، وقد جرى التركيز على اهتمامات الهوية بتسويغ منحه نوبل. 
حين سُئل في ذلك الحديث الصحفي الذي أجري معه من قبل مجلة باريس ريفيو، وكان في خريف عمره، عام 1985، عن كيفية كتابته الشعر فإنه تساءل بدوره: “لا أعرف كم من الكتّاب يكونون مستعدّين للاعتراف بطقوسهم التحضيرية الخاصة قبل الشروع في وضع شيء ما على الورق. لكني أتخيل أن جميع الفنانين وجميع الكتاب في تلك اللحظة قبل أن يبدؤوا يوم عملهم، أو ليلة العمل، ستكون لديهم تلك المنطقة بين البداية والتحضير، وعلى الرغم من إيجازها، فهناك شيء حولها نذري ومتواضع وينطوي على معنى ما من (معاني) الطقوس”، حتى أنه يستعيد مناسبة التعميد موضحاً:” أقصد أن الأمر يشبه عادة الكاثوليك الذين يدخلون الماء، إنك تجتاز نفسك قبل أن تمضي إلى الماء”. ثم يؤكد أن: “أية محاولة جادّة من أجل القيام بشيء ذي قيمة تعدّ 
طقوسية”.
تقترن الطقوسية هنا بجدّية العمل وبقيمة المنتَج المتحقّق عن العمل. فحتى يكون المنتَج ذا قيمة فإن محاولة بلوغه ينبغي أن تكون (جادة)، ولن تكون جادة، ولن يكون المنتج ذا قيمة، من دون جوٍّ طقوسي لازم لهذا الاقتران والهدف منه، الغاية والوسيلة هنا متلازمتان وتبرّر كل منهما الأخرى.
في تاريخ الشعر العربي تظل حياة شاعر الحوليات رهن هذا الاقتران؛ العمل (الجاد) في القصيدة خلال حول كامل هو وسيلة الشاعر من هؤلاء لبلوغ قصيدة ذات (قيمة) بموجب تصوّر الشاعر نفسه، وبموجب رؤيته للجدية اللازمة لإنتاج الشعر. 
هذه بعض طقوس جانب من الشعراء العرب في كتابة الشعر كما يدونها التاريخ ويرويها الرواة، وكان الأصمعي يسمي هؤلاء الحوليين بـ (عبيد الشعر)، وهي تسمية جديرة بالاعتبار هنا في هذا السياق.
طقوس، أو تقاليد، كتابة الشعر تختلف من شاعر إلى آخر، ومن تجربة شعرية إلى أخرى. وغالباً ما تفرض طبيعة الموضوعات نوع تقاليد كتابتها وطقوسها، كما أن طول وقت الكتابة أو قصره ليسا شرطاً لازماً من شروط طقوسية التأليف الشعري، في الأعم لا تقتضي القصيدة إلا وقتاً قصيراً وربما خاطفاً من الشاعر، لكنه وقت كثيف وعميق بما يحصل في اثنائه، وهذا الذي يحصل أثناء التأليف الشعري هو طقس الكتابة. يشير ابن رشيق إلى هذا الوقت الخاطف حتى لدى شعراء الحوليات، لكن الدأب على تشذيب القصيدة وتهذيبها، مما سماه النقاد العرب القدامى بـ (تحكيك 
القصيدة)، 
هو حال آخر لا صلة له بالتأليف قدر ما يتعلق بالمراجعة والتدقيق، وهذا ما يوجب الطبيعة الحولية لها.
ما يتحدث عنه ديريك والكوت لمحرر باريس ريفيو لا صلة له بالوقت اللازم للتأليف، إنه منشغل بالعناء الوجداني والعقلي الذي يكون فيه الشاعر أثناء لحظة التأليف. وفي العادة لم يكن من تقاليد الشعراء أن ينشغلوا بما يعبّر عن هذا العناء. 
وهذا ما يريده والكوت بالقول: “لا أعرف كم من الكتّاب يكونون مستعدين للاعتراف بطقوسهم التحضيرية الخاصة قبل الشروع في وضعِ شيءٍ ما على الورق”. 
هذه طقوس ظل الشعراء، قديماً، يتحاشون ذكرها إلا بقدر ما يتسرّب منها حين يكون عناءُ الكتابة موضوعاً لقصيدة. 
في الخارج من هذا سيكون نزراً ما نصادفه من أثر تعبيري عن تلك الطقوس، ومن هذا النزر في تراثنا العربي ما جاء على لسان الفرزدق:” وربما أتت عليَّ ساعةٌ ونزع ضرس أهون فيها عليَّ من قول بـيت شـعـر”، وهذا (بتعبير والكوت) اعتراف. 
وسيكون الاعتراف، كاعتراف الفرزدق، نادراً في فضاء ثقافي، كالفضاء العربي، الذي دأب فيه الشعراء على اعتماد مبدأ الفحولة في الشعر، ومن قيم الفحولة الاستقواء حتى على الشعر نفسه.
كلمة طقس (ritual)، حسب والكوت، تحيل إلى مفهوم ديني، إلى تقاليد ممارسة شعيرة دينية، كما هو الحال بالنسبة لكلمة صلاة (Prayer)، أو دعاء، أو تضرع، فجميعها تعود لقاموس ديني. 
وهو ما يعنيه الشاعر، ليس بصلته بالقداسة الدينية حصراً، إنما أيضاً لتأكيد وثوق الصلة ما بين التقديس ولحظات كتابة الشعر؛ مزيج من رصانة الغاية ومن احترام وسيلة بلوغها. فديريك والكوت يخلص بعد هذا إلى القول لمحاوِره: “في بعض الأحيان إذا ما شعرت بأنني قد قمت بعمل جيد فأنا أصلي، أتقدّم بالشكر. لا يحصل هذا في أكثر الأحيان، طبعاً. لا أفعل ذلك يومياً. 
أنا لست راهبًا، لكن إن حصل شيء ما، فأنا أزجي الشكر، إذ أشعر أني محظوظ حقًا، نوع من نعمة عابرة حدثت لأحد”. الكتابة وطقسها حين تكون شكلاً من أشكال الصلاة تخلص إلى هذه التزجية بالشكر.
لكن والكوت الشاعر الذي ظفر بنوبل عام 1992 كان قد بدأ حياته مع الشعر بمفارقة. ففي الرابعة عشرة من عمره نشر والكوت في صحيفة صوت سانت لوسيا قصيدته الأولى، وكانت قصيدة، كما وصفها النقاد في ما بعد، ميلتونية دينية. 
هذه القصيدة أثارت قساً كاثوليكياً إنجليزياً فانتقدها بشدة، ووصفها بأنها تجديف، وذلك في ردٍّ نشر في الصحيفة نفسها.
كان هذا قساً متطرفاً. وربما كان والكوت بعد عقود، وفي الحوار نفسه مع باريس ريفية، يستعيد تلك الذكرى مع القس إذ يعتقد أنه بمواجهة هكذا تعسف في القناعات يجب يكون الكتّاب الشباب أكثر هرطقة. 
الشعر يفضي ببعض وجوهه، ومن حيث لا يعرف القس، إلى نوع من الإيمان قد لا يدركه هو، لكنه شيء من نور داخلي ينبثق من دخيلة الشعر والشاعر. في واحدة من آخر قصائد والكوت تأتي هذه العبارة:
أربعون سنة انطوت، في طفولتي في الجزيرة، حيث شعرت بذلك بأن هبة الشعر جعلتني أحد المختارين.