بوليغون.. ماضي كازاخستان النووي

بانوراما 2023/03/15
...

  شيريل إل ريد

 ترجمة: ليندا أدور 

ببدلات بيضاء واقية وأقنعة وأحذية مطاطية، ودفع ما يقارب ألف دولار أميركي، يمكن للسياح من عموم أنحاء العالم التجوال في منطقة السهوب العشبية النائية بموقع التجارب النووية في كازاخستان، حيث فجر علماء الجيش السوفيتي، على مدى عقود، 456 قنبلة نووية،  ليفرض الإتحاد السوفيتي السابق نفسه قوة نووية عظمى خلال أواخر اربعينيات القرن الماضي.



ساعد موقع التجارب النووية سيميبالاتينسك Semipalatinsk، الذي يعرف بـ"البوليغون Polygon"، في دخول العصر النووي، معرضا نحو نصف الى مليون ونصف شخص لجرعات عالية من الإشعاع.  لكن اليوم، يسبح السكان المحليون في البحيرة القريبة منه، ويرعون مواشيهم وخيولهم ويجنون الفراولة البرية، ويصطادون الأرانب، فلا وجود لنقاط تفتيش ولا أسياج ولا علامات تحذر من أن المنطقة، بمساحة 7065 ميلا مربعا، لا تزال مشعة. 

وسط حالة محفوفة بالمخاطر، يلقي البعض اللوم على إهمال حكومة كازاخستان الذي يعتقد بأنه ناشئ عن رغبتها في التخلص من الذكريات المزعجة عن الزمن الذي كانت فيه تحت رحمة نزوات موسكو الذرية. وخلال السنوات الأخيرة، ازدادت الأمور سوءا عندما بدأ السراق بتفكيك ما تبقى في ميادين القصف من حديد تسليح وأنابيب وقابلوات وكل ما يمكنهم إعادة بيعه، 

ليمحو بذلك التذكيرات المرئية الشاخصة عن تأريخ الموقع والمخاطر التي لا يزال يمثلها.


السياحة السوداء

تقول مجدلينا ستاوكوفسكي، الأستاذة في الأنثروبولوجي الثقافي والطبي بجامعة ساوث كارولينا بأنها: "اعتقد بأنها مسألة أموال وإرادة ومحاولة نسيان الماضي".

لكن التهديدات الروسية باللجوء لاستخدام الأسلحة النووية في حرب أوكرانيا، سلطت الأضواء من جديد على مخاطر ترك منطقة مثل "البوليغون" للنسيان، التي توجد اليوم، ضمن قوائم السياحة السوداء الى جانب مواقع أخرى بارزة ومعروفة بسبب الموت والمآسي والمعاناة التي تسببت بها منها جزيرة الكاتراز، القريبة من مدينة سان فرانسيسكو، وسراديب الموتى في باريس، ومحطة تشرنوبل للطاقة النووية ومدينة بيربيات 

المهجورة. 

لكن "بوليغون" ليست مجرد وجهة سياحية، فرغم إغلاق الموقع أمام التجارب النووية العام 1991، ما زال يمثل مختبرا هائلا للعلماء الذين يدرسون تأثيرات التعرض للإشعاعات على النباتات والحيوانات والممرات المائية الجوفية والسطحية والسكان القريبين 

ونسلهم.

سميت مدينة كورتشاتوف، التي تقع أعلى "البوليغون"، المقر الإداري والبحثي لحقول الاختبار السابق، على اسم، إيغور كورتشاتوف، الفيزيائي السوفيتي، "أبو القنبلة الذرية السوفيتية". فعلى مساحة أكثر من 51 هكتارا من المدينة ، يوجد مجمع كورتشاتوف المترامي الأطراف الذي ضم مخابر ومبان إدارية لمركز أبحاث الإشعاع، فقد كان أقرب موقع قصف، يبعد عن كورتشاتوف 31 ميلا، لكن تأثيرات الإشعاع لا تزال تؤثر في السكان هناك والقرى 

المحيطة. 


حساء الملوثات

خلال فترة ما بين العامين 1949 و1989، فجر السوفيت أكثر من خمسين ميغا طن من الأسلحة النووية في سيميبالاتينسك، اي ما يعادل أكثر من ثلاثة آلاف قنبلة بحجم القنبلة التي ألقيت على هيروشيما. أحد الاختبارات، نشأ عنه ما يسمى "البحيرة الذرية" بعمق 328 قدما، تمثل الخطر الأكبر في المنطقة نظرا لتراكم الغبار المشع على الملابس أو استنشاقه، اذ، حتى يومنا هذا، تواصل عدادات جايجر(المستخدمة للكشف عن انبعاثات المشعة) تصدر تنبيهات عن مستويات إشعاعية بمقدار 13 مرة أكثر من المعدل الطبيعي. تلجأ الحكومة الى تأجير "الأراضي النظيفة" في "بوليغون" للشركات العاملة بمجال تعدين الفحم والذهب ومعادن أخرى، إلا أن ستاوكوفسكي ترى بأنه ينبغي عدم السماح بذلك، مشبهة المنطقة وكأنها: "حساء من الملوثات"، مشيرة الى أن الهدف هو فتح "بوليغون" أمام الأعمال والشركات، لكن "لا يمكن تطهير أثر الإشعاع، ففترة العمر النصفي للبلوتونيوم تبلغ نحو 24 ألف 

سنة". 

تعد كازاخستان أكبر منتج لليوارنيوم في العالم، والذي يصل لما يقرب من نصف الإجمالي العالمي، تقول ستاوكوفسكي أن العديد من القرى والبلدات بنيت فوق نفايات مناجم اليورانيوم، اذ يقدر الخبراء بأن البلاد تمتلك نحو 230 طنا من النفايات المشعة يضمها 529 موقعا.

يرى بعض الكازاخيين بأن فقدان الماضي وتركة "بوليغون" يشكل خطرا كبيرا، يجب المحافظة عليها، ففي متحف بيئي قريب، تعرض بعض من القطع الأثرية والصور، كتذكير مؤلم بالماضي السوفيتي، تركها الروس ورحلوا بعد انهيار الإتحاد عام 1991. لكن يبدو أن موسكو لم تنس إرثها النووي اذ قامت، مؤخرا، باختبار صاروخ جديد في موقع، يبعد 300 ميل فقط جنوب "بوليغون".


*مجلة فورين بوليسي الأميركية