رعد اطياف
نظرًا لغريزته الإجرامية المتطورة، كان صدام حسين يعتقد أن القتل هو أقصر طريق للتخلص من أي اتجاه سياسي معارض، ولذلك كان يتخلص من معارضيه الفعليين والمُحتَملين بطريقة عدوانية خالية من أي رحمة.
استطاع صدام حسين، وعلى مدى أكثر من ثلاثة عقود، تدجين المجتمع العراقي، وتحولت البلاد إلى كابوس أسود، تدار بالحديد والنار، وكانت حصيلتها أكثر من ثلاث عقود نزفت دماً ودموعاً.
والقتل الذي يتفنن به الطغاة لا يقتصر على الطرق التقليدية؛ فيمكنك بدولة بوليسية واقتصاد مركزي، وهبات وعطايا توزع لـ»المخلصين» أن تستولي على أرواح الناس وتدجّنهم بعملية قتل رمزي طويلة الأمد، وستكون عوائدها الاستثمارية مربحة جدًا، وتضمن للطاغية أكبر مقدار ممكن من إطالة أمد وجوده في السلطة.
لا حاجة لسرد التفاصيل التاريخية للأنظمة الاستبدادية فمصائبها أوضح من أن تذكر، وضحاياها لا تختلف عن ضحايا الكوارث الطبيعية، ذلك أن وجود الطاغية، وعلى المدى البعيد، يوازي الكارثة الطبيعية.
بل هذه الأخيرة يمكن تخطيها ومعالجتها، إلا أن آثار الطاغية تبقى شاخصة لأمد طويل.
«الدولة» الاستبدادية هي دولة تختزل المؤسسات والمفاهيم والأشخاص في شخص واحد لا غير، وتتحول مفاهيم مثل السياسة والإدارة إلى محض أوهام، والأشخاص إلى محض بيادق في رقعة شطرنج الطاغية، وتقع السلطات الثلاث أسيرة تحت قبضة الطاغية وتغدو شكلاً بلا مضمون؛ فهو رئيس البرلمان، ورئيس القضاء، ورئيس الجمهورية، ورئيس الوزراء، ورئيس الحاضر والماضي، والباقون مجرد دمىً تحركها قبضة «السيد الرئيس».
ومن الغريب أن نسمع بين الحين والآخر أصوات نشاز يغمرها الحنين إلى أيام الطغيان «الجميلة»؛ حيث كانت عائلة واحدة تتحكم بمقدرات البلاد والعباد، ونظام هجين لا تعرف له ملامح واضحة؛ لا هو نظام جمهوري من وجه، ولا هو نظام ملكي من وجه آخر، بل هو نظام «جملكي» مثلما يقولون.
نظام سياسي كان يفرض عليك ماذا تأكل وتلبس، وماذا يحق لك من مسموع ومقروء ومرئي، ويمكنك أن تنال عقوبة السجن في ما لو تجرأت بإطالة ذقنك، والويل لك لو تجرأت بقراءة كتاب يندرج في قائمة الممنوعات.
في نظام البعث السابق كل شيء ممنوع ما لم يأتِ فيه استثناء؛ فكل العراقيين بعثيون وإن لم ينتموا، وكل العراقيين مُتَّهَمين مالم تثبت براءتهم، وكل العراقيين عملاء مالم يقدموا فروض الطاعة والولاء، ولكي تثبت ولاءك لا بد أن تكون جنديًا مخلصا في دولة البوليس السري، وإلا ستتعرض لسلسلة من التنكيل والإذلال لا يسلم منها حتى أقربائك.
الطاغية يتشبه بالإله والأولياء الصالحين؛ فلديه الأسماء والألقاب الخاصة، ولديه النسب المبارك، ولديه الحكم والمواعظ والخطب، ولديه الأصحاب المقربون (أصدقاء الرئيس)، ولديه أيضاً نشاطه الأدبي الخاص، كالروايات، والمسرحيات، وينبغي أن يُخَلَّد في الرسوم، والنحت، والأعمال الدرامية والسينمائية.
والطاغية لا يموت، فسيحدث لدى عبيده حالة من الصرع والهستيريا والهذيان الجماعي يثبتون من خلالها أن الطاغية لم يمت موتاً طبيعياً وإنما مات شهيداً محتسباً، وهذا الشخص الخائف المرعوب ذو المظهر الرث الذي وجدوه في الحفرة لم يكن صدام حسين وإنما كان شبيهه، وما أشبههم بأصحاب العجل، إذ ما زالوا حتى الآن يستمتعون بخواره الأجوف.