ميادة سفر
لم تعد الحروب العسكرية وزج مئات الجنود في المعارك هي الطريقة الوحيدة للسيطرة التي يمكن أن تنتهجها الدول في الوقت الراهن، إذ ثمة أساليب وطرق جديدة أقل تكلفة وأفضل نتائج، تجعل البلد المستهدف خاضعاً وبإرادته للدولة المستعمرة، ويعتبر الاقتصاد السلاح الأمضى الذي لجأت إليه كثير من الدول، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية لفرض هيمنتها على الدول، لا سيما تلك التي تتمتع بموارد وثروات طبيعية كبيرة من نفط وغاز ومناجم للذهب، وذلك عبر ما يمكن تسميته الاغتيال الاقتصادي كأحد الأسلحة الناعمة للحروب الحديثة.
تعمد الدول إلى فرض هيمنتها الاقتصادية على الدول الفقيرة بحيث تقضي على أية فرصة لها للنهوض واستثمار ثرواتها بمفردها، وبالتالي الانتفاع بها بشكل كامل، تتخذ تلك الهيمنة أشكالاً متعددة سواء من خلال سيطرة الدول القوية على موارد الدول الضعيفة مباشرة، أو بشكل غير مباشر من خلال إغراقها بالديون عبر البنوك الدولية وأحياناً من خلال هيمنة الشركات الصناعية الكبرى المدعومة من الخارج، بحيث لا تدع مجالاً للمناسفة من قبل الشركات الأصغر وبذلك تسيطر على الأسواق والتجارة والصناعة بشكل كلي، فضلاً عن استعمال الدول الفقيرة أسواقاً لتصريف منتجاتها وعدم السماح لها بالاستثمار في المجال الصناعي لتبقيها دولاً مستهلكة غير منتجة، وبالتالي تبقى تبعيتها لتلك الدول الصناعية الكبرى لتأمين احتياجات ومتطلبات شعوبها.
تعتبر الولايات المتحدة الأميركية من أوائل الدول التي تمارس الاغتيال الاقتصادي، وتاريخها حافل بالعمليات التي أخضعت فيها دولاً لسيطرتها عبر بوابة الاقتصاد، وهو ما أشار إليه جون بيركنز المتخصص بالقتل الاقتصادي في كتابه الشهير «اعترافات قاتل اقتصادي» حين تحدث عن الأساليب المتبعة لإغراء الدول النامية بالمشروعات التنموية من أجل إغراقها بالديون، ومن ثم السيطرة عليها سياسياً بعد قتلها اقتصادياً، من بنما إلى المملكة العربية السعودية وإيران وغيرها من دول اتبعت فيها الولايات المتحدة الأميركية أسلوب القتل الاقتصادي لتؤمن الهيمنة السياسية لاحقاً.
انطلاقاً من أهمية الاقتصاد في الهيمنة على الدول شكل صعود الصين كمارد اقتصادي عملاق وقوة لا يستهان بها، هاجساً وقلقاً كبيرين للولايات المتحدة الأميركية التي وجدت أن البساط بدأ يسحب من تحتها، لا سيما أن تنامي القوة الاقتصادية الصينية من شأنه أن يؤدي إلى إعادة تشكيل العالم سياسياً واقتصادياً، في ظل التقارب والتعاون بين الصين وروسيا العدوين اللدودين لأميركا، وقد توقعت بعد الدراسات والأبحاث الصادرة عن مركز أوروبية انتهاء الهيمنة الاقتصادية الأميركية على العالم بحلول عام 2040، مما يعني تقسيم العالم اقتصادياً بحيث يصبح متعدد الأقطاب أو ثنائي القطب ما بين أميركا وحلفائها من جهة والصين وروسيا وحلفائهما من جهة أخرى، وعلى الرغم من صعوبة تحقق هذا الأمر في ظل القوة الكبيرة والمتنامية للدولار الأميركي وتحكمه بكل مفاصل الاقتصاد عبر العالم، إلا أنّ مجرد الحديث عنه يدعو للقلق بالنسبة لدولة عظمى مثل الولايات المتحدة
الأميركية.
بشكل عام لا يمكن للدول الفقيرة التخلص من هيمنة الدول الغنية إلا من خلال الاستثمار بثرواتها البشرية والطبيعية، والعمل على تحقيق الاكتفاء الذاتي، الذي سينقذها من براثن المديونية للبنوك الدولية والدول، ولا يحتاج المرء لكثير من الخبرة ليدرك كيف يدمر الاقتصاد المديون الدول ويقودها إلى الانهيار سياسياً واقتصادياً ومن جميع النواحي، وفي منطقتنا العربية أمثلة عدة عما نتحدث
عنه.