الثورة الثقافيَّة

آراء 2023/03/16
...

 علي المرهج


في كتابه «الثقافة والثورة» يحدثنا (أمين محمود العالم) عن قيمة الثقافة، بوصفها فعلا ثوريا في مواجهة الراكد والسائد من الأفكار، التي هيمنت على حياتنا المجتمعية، فتصورنا أن بعضا منها مرادف للثقافة، ولكنه في أقل ما يقال عنه إنها «ثقافة استهلاكية» لا إبداع فيها، لأن الثقافة التي تحمل في طياتها نزوعا ثوريا هي «الثقافة التغييرية»، التي تدفع المبدع باتجاه إنتاج نص في الفن والأدب والفلسفة يستفز السائد ويقض مضاجع السكون


العمل الإبداعي هو العمل الذي يكشف لنا عن قيمة المعاش في حياتنا، إن كان بائسًا أو كان مفرحًا، لأن الإبداع مرتهن بالقيمة التغييرية التي تشكل أثرًا.

قد يكون في الفن والأدب ثورة على نسق ثقافي سائد، كما فعل شعراء الحداثة، الذين فصلوا في قيمة نتاجهم الإبداعي (بطرس غالي) في كتابه (التراث والثورة)، لأنهم تمكنوا من خرق عمود الشعر ليبدعوا لنا شعرًا فيه من الانتماء للعصر أكثر من التغني قي الموروث.

لنتفق على أن قيمة الفن والأدب تكمن في تحدي الموروث «السكوني» وإنتاج إبداع «يكون بحق أداة اجتماعية وثورية»، كما يقول (محمود أمين العالم) في كتابه (الثقافة والثورة).

يرتبط مفهوم الثورة الثقافية بما أحدثه «ماو تستي تونغ» في الصين عام 1966، وهي دعوة «راديكالية» جذرية ذات نزوع «شيوعي».

ما يُلفت النظر، أن الحديث عن علاقة الثورة بالثقافة مرتبط بما قدمه المفكرين اليساريين من وجهات نظر بدت، وكأن العلاقة بين «الثقافة» و»الثورة» مرتبطة جدلًا بالماركسية، فما قدمه (بطرس غالي) و(محمود أمين العلم) و(مهدي عامل)، يجعلنا نؤصل لمفهوم «الثورة الثقافية» وفق التصور الماركسي لها.

يؤكد اليساريون أن مهمة المثقف إنما هي مهمة ثوري، ولا قيمة للقول بوجود «مثقف عضوي»، بحسب تعبير (غرامشي) إن لم يكن هذا المثقف يعرف قيمة «الثورة»، بل وعلاقتها التلازمية والضرورية مع الثقافة.

لا قيمة لثقافة لا تخدم المجتمع، كما لا قيمة لفن لا يفتح أفقًا جديدًا للوعي الثوري. ما ينبغي على المثقف فعله هو «إيقاد الشعلة الثورية»، لأن الثقافة ترتبط بالممارسة، والممارسة كما يرى (مهدي عامل) في كتابه «الثقافة والثورة» إنما ترتبط بالثورة ضد الأنظمة الاستبدادية والفاشية.

الثقافة لا تعني أن يكون الشاعر مبدعًا في نتاجه الشعري فقط، والحال ينطبق على الفنان والروائي والقاص، فلا قيمة لإبداعه إن لم يكن لإبداعهم فعل التأثير والتغيير الاجتماعي نحو

 الأفضل.

لا فصل بين الثقافة والسياسة عند دعاة الفكر الثوري اليساري، وهم لا يختلفون في الرؤية هذه عن دعاة الإسلام السياسي، الذين لا يفصلون بين الإسلام بوصفه «الثقافة» والسياسة بوصفها واحدة من من مستلزمات الإيمان الديني.

كل نظام شمولي وحزبي «راديكالي» ينظر للثقافة على أنها طريق الثوار في أيديولوجيته، ومهمة المفكرين فيه إنما هو جعل «الثقافة» في خدمة «الثورة»، على قاعدة إما أن يكون المثقف مع الثورة أو ضدها، ولأن كل رؤاهم هي رؤى خلاصية، وكل حزب بما لديهم فرحون، فستبقى شعلة الصراع متقدة بين الأحزاب الخلاصية.

مشكلة الأحزاب الخلاصية (الثورية) أنها تنظر للمثقف الناقد أو المناهض لرؤيتها، وإن لم يكن يتبنى أيديولوجيا عقائدية، إنما هو «مثقف مزيف»، لأنه لم ينخرط في مشروعها الأيديولوجي (الثوري)، لأن الثقافي في الأحزاب الخلاصية «الثورية» تحكمه قاعدة «المع» أو «الضد»، فالحياة إما «أبيض» أو «أسود» ولا مجال لتعايش الأضداد فيها، ولا وجود للون الرمادي، فإما أن تكون مع «االمغلوب» أو تكون مع «الغالب»، وكأن فهم المعني للمغلوب والغالب يقوم على وفق المنطق الأرسطي وتعريف أي منهما « تعريفًا جامعًا مانعًا».

لا مكان للمثقف المستقل وسط الصراع المحتدم، بين من يجعل الثقافة مرتهنة بالثورة ببعدها الراديكالي، والذي ينظر للثورة على أنها تغيير ثقافي واجتماعي للتصحيح.

اليساريون والإسلاميون لا وسط أرسطي «ذهبي» للفضيلة عندهم على أنها «وسط بين رذيلتين، كلاهما إفراط وتفريط»ـ فأن تكون مع هذه الجهة يصفك المعرضون فأنك «مثقف مزيف» والعكس 

صحيح.

ما أعتقده أن لا قيمة للمثقف إن لم يكن حرًا في تفكيره، ويعمل على أن يكون خارج «الجماعة»، بمعنى أن يرى الأحداث بمنظار موضوعي لا يخضع فيه لسلطة عقدية أو أيديولوجية ما.