شيونغان.. مدينة الصين المستقبليَّة

بانوراما 2023/03/18
...

  اندرو ستوكولز

  ترجمة: مي اسماعيل


على بُعد نحو 96 كم جنوب مركز بكين يتم تشييد مدينة جديدة، لتكون وجهة للتنمية عالية التقنية والصديقة للبيئة. فقد أشادت وسائل الإعلام الصينية الحكومية بمحطة قطار المدينة (عالي السرعة) ومركز البيانات الذي يطلق عليه  اسم “دماغ المدينة” بأنها دلائل على سرعة وتفوق نموذج النمو الصيني؛ لأسباب ليس أقلها أن المدينة هي “مبادرة تحمل توقيع” الرئيس الصيني “شي جين بينغ”. 

المنطقة الجديدة في “شيونغان” هي ايضا اختبار لمدى قدرة الصين على تعزيز الابتكار المحلي والارتقاء إلى مصاف الدول المتقدمة، في مواجهة نمو اقتصادي متباطئ وجهود أميركا وآخرون لتقييد وصول الصين الى التكنولوجيا المتقدمة. تقدم شيونغان نافذة لما تبدو عليه رؤية الرئيس “بينغ” للإبتكار الذي تقوده الدولة على أرض الواقع. وصف الرئيس “بينغ” المدينة بأنها..”مبادرته الشخصية”، وأنها..”qiannian daji”؛ أو “خطة الألف سنة ذات الأهمية الوطنية”. كُشِف النقاب عن مخطط شيونغان رسميا عام 2017، لتخفيف الضغط عن بكين وتعزيز “التنمية الإقليمية المنسقة” لمنطقة بكين وتيانجين وخبي، وواجهت متاعب مالية بسبب ضخامة كلف الاستثمار؛ وهي مشكلة ازدادت صعوبتها نظرا لأزمة العقارات المتصاعدة في الصين.عموما تبلغ مساحة المنطقة الجديدة نحو1683 كيلومتر مربع، مع عدد سكان مخطط يقارب الثلاثة ملايين. حاليا تضم المقاطعات الثلاث التي تشترك في مساحة المدينة نحو مليون ونصف مليون نسمة مقيمين على المدى الطويل. وقد أُعلن منذ شهر أيلول 2022 عن مبلغ أربعمئة مليار يوان (تعادل قيمة 57 مليون دولار) من الاستثمار المكتمل لصالح انشاء المدينة بشكل عام. 


أرضية اختبار

وفي الوقت الذي أتخم فيه الرئيس بينغ اللجنة الدائمة للمكتب السياسي الجديد بالمسؤولين الموالين له؛ فقد قام بترقية من لديهم خلفيات علمية وهندسية قوية. وأعلن الرئيس عبر خطابه خلال مؤتمر الحزب العشرين الذي أقيم أواسط شهر تشرين الأول الماضي ..”أن الابتكار سيقى في قلب حملة الصين التحديثية، وان البلاد عملت جاهدة من أجل تعزيز التنمية عالية الجودة ودفعت لتعزيز نمط جديد من التنمية”. لكن عدة عوامل التقت للمساهمة بإبطاء إيقاع النمو في الصين؛ والتي كان منها إغلاقات وباء كورونا والتوترات التجارية. بالنسبة لرؤية بينغ فإن سيطرة الحزب لا تشكل عائقا أمام الابتكار؛ بل ان رؤية بينغ للإبتكار هي رؤية تلعب فيها الدولة والحزب دورا رائدا. لقد قاد الرئيس حملة لقمع شركات التكنولوجيا الخاصة (مثل “علي بابا”)؛ لكنه روّج ايضا لسياسات مثل: “صُنع في الصين 2025” التي تهدف إلى تعزيز الإنفاق على البحث والتطوير، والإعانات لمنح الشركات الصينية مزايا تنافسية في الصناعات؛ بما في ذلك التكنولوجيا الحيوية والروبوتات والذكاء الاصطناعي وأشباه الموصلات. تفضل سياسات بينغ “التكنولوجيا الصلبة”  المشهورة في الأوساط العلمية (هارد تاك)؛ على شركات تطبيقات الأنظمة الأساسية القائمة على أنظمة البرمجيات “software”. كان “تشن جانج” سكرتير الحزب الأول في شيونغان، الذي أشرف على متنزه “تشونج غوان تسون- Zhongguancun” للتكنولوجيا الفائقة في بكين قبل نقله إلى “ غويتشو-Guizhou”؛ حيث ساهم (تحت رعاية حليف بينغ “تشين مينر”) على تحويل المقاطعة الجنوب غربية الى مركز للبيانات الضخمة “ “data والحوسبة السحابية “cloud computing”. 

يشمل نهج الابتكار في شيونغان تضمين التكنولوجيا في نسيج المدينة، إضافة إلى عمليات الابتكار ضمن دولة الحزب. وجرى انشاء مجموعة “ شيونغان” لتكون اداة الاستثمار لتطوير المنطقة ككل، تحت سيطرة مقاطعة خبي؛ لكنها مدعومة جزئيا بواسطة قروض من “بنك التنمية الصيني”. في ضوء ذلك، كانت أول الشركات المركزية المملوكة للدولة التي بدأت بناء المكاتب في المنطقة الجديدة هي “شركة اتصالات الأقمار الصناعية الصينية”، وشركة الطاقة العملاقة “مجموعة هوانينغ الصينية” و”سينوكيم القابضة”؛ وتلتها شركات عملاقة اخرى. هذه الشركات الحكومية يمكنها استخدام شيونغان كأرضية اختبار لتكنولوجيا جديدة، في حين تخطط معاهد بحثية وفروع تابعة للعديد من جامعات بكين لإفتتاح مواقع لها في المنطقة بحلول العام 2025. كما إن نقل هذه المؤسسات الرئيسية والآلاف من موظفيها سيحدد مدى سرعة تقدم تطوير شيونغان. 


دماغ المدينة

رغم تباطؤ الاقتصاد الصيني بعد فترات الاغلاق بسبب كورونا والانكماش العالمي؛ فقد استمرت عمليات بناء المرحلة الاولى من المدينة.. جرى سنة 2020 افتتاح محطة القطار عالي السرعة لربطها مع بكين، وتلتها تجمعات سكنية وممرات الخدمات الضخمة تحت الأرض، ومركز بيانات دماغ المدينة؛ الذي سيكون بمثابة المركز العصبي للأنظمة الرقمية فيها. اكتمل الجزء الاول الذي يضم برنامج اسكان لنحو 170 ألف شخص، وأظهرت التقارير الاعلامية عن المدارس الجديدة جهود بناء مرافق عامة عالية الجودة لجذب السكان إلى المدينة. يبدو ان الهدف من انشاء شيونغان هو نشر أنظمة تكنولوجية جديدة على مستوى المدينة داخل النسيج الحضري نفسه؛ مثل- أنظمة اللوجستيات تحت الأرض ومرافق معالجة المياه والبنية التحتية لجمع البيانات وإدارتها. وصفت شيونغان بأنها عبارة عن “ثلاثة مدن”: المدينة فوق الأرض، والمدينة تحت الأرض، والمدينة “السحابية”. وبالنهسبة لمدينة تحت الارض فهناك ممرات المرافق التي تم وضعها أسفل الطرق الرئيسية، لكي تنقل المياه والكهرباء، إضافة إلى فضاءات النقل اللوجستي الآلي. أما المدينة السحابية فتشير الى توأم شيونغان الرقمي؛ وهي نسخة رقمية افتراضية يتم إنشاؤها جنبا إلى جنب مع بناء المدينة الفعلي. من المفترض بهذا التوأم الرقمي ان يسمح بتحسين خدمات المرور في الوقت الفعلي، وصيانة أفضل للبنية التحتية وأنظمة التكنولوجيا؛ ولإدارة تعتمد على الخوارزميات لحركة المرور والأنظمة الحضرية الأخرى. جرت تجربة أنظمة مشابهة في مدن صينية اخرى، للسيطرة على حركة المرور على سبيل المثال؛ إعتمادا على تكنولوجيا المراقبة المنتشرة. لكن حالة توأم شيونغان الرقمي واستخدام المركبات ذاتية القيادة التي تعمل بتقنية (جي فايف- G5) لم يتم تجربتها بعد (من الألف إلى الياء) على نطاق مدينة جديدة بالكامل مثل شيونغان. 

كما هو الحال مع أنظمة البُنى التحتية الضخمة، فإنها تسمح بتجربة وعرض تقنيات جديدة وبمقياس لم يتم الإطلاع عليه في أغلب مشاريع المدن الجديدة. كما كانت شيونغان أرضية اختبار لجهود الصين لتأسيس نظام “رينمينبي-renminbi” رقمي جديد؛ وهي عملة رقمية للبنك المركزي قد يمكنها تقليل الاعتماد على الدولار الأميركي في النهاية وتسمح للحكومة بجمع البيانات عن تحويلات المستهلكين المالية. وفي ضوء ذلك، إستلم العاملون ضمن مشروع إنشاء المدينة إجورهم بواسطة عملة (بلوك تشين- blockchain) الرقمية، وبالتالي كان ذلك تحفيزا لاعتماد العملة الرقمية حتى مع تباطؤ معظم المستهلكين في تبني نظام الرينمينبي الرقمي. 


“جودة شيونغان”

عندما تشير مدينة شينزين (مركز التكنولوجيا والابحاث والصناعة والاعمال- المترجمة) الى تجربة الصين مع إصلاحات السوق في عهد الرئيس الصيني الأسبق “دنغ سياو بنغ”؛ فان شيونغان تمثل انقلابا جزئيا.. اليوم بات مصطلح “Xiongan zhiliang “ (ويعني “جودة شيونغان”) مستخدما لوصف المدينة لكونها رمز “التطوير عالي الجودة”. وهو مصطلح انبثق عام 2017 أثناء المؤتمر التاسع عشر للحزب ليكون اشارة لتقدم الصين بعيدا عن التصنيع الثقيل نحو بلوغ عصر ما يسمى بالنمو الأنظف الذي يتطلب معرفة مكثفة. ويشير أيضا الى مصطلح “Shenzhen sudu” (ويعني “سرعة شينزين”)؛ الذي استُخدِم لوصف سرعة نمو شينزين، بوصفها واحدة من أوائل المناطق الاقتصادية في الصين خلال عقد الثمانينيات. اضافة للتركيز على الابتكار، كان لتصميم المدينة أهداف الهندسة الاجتماعية؛ إذ تدعو المدينة لوضع المرافق الاجتماعية والثقافية في قلب الحياة الحضرية؛ مما يعكس الأهمية التي وضعها الحزب الشيوعي الصيني منذ العام 2014 على تنمية المزيد من التحضر “المتمحور حول الإنسان”. ويدمج تصميم المدينة أيضا عناصر من الثقافة التقليدية الصينية مع العمارة الحديثة؛ مما يعكس  تركيز “بينغ” على “الثقة الثقافية بالنفس”. كما تلعب الجودة البيئية دورا كبيرا في القوة الرمزية لمدينة شيونغان، واعترافا منه بأن التلوث السام بات يشكل تهديدا لشرعية الحزب؛ أصدر مجلس الدولة عام 2014 إرشادات جديدة للتخطيط الحضري؛ واصبحت شيونغان بلورة لها؛ خاصة من حيث استخدام الطاقة المتجددة.   


في دولة الحزب

بالطبع لا يمكن لشيونغان دفع الابتكار الصيني قدما بمفردها، وقد لا يكون من الحكمة ربط كل هذا القدر من الاستثمار الثابت في تقنيات قد لا تُنفذ  بالكامل أو قد يعفو عليها الزمن؛ خاصة نظرا للوتيرة السريعة للتغير التكنولوجي، أو كما حدث لبعض المدن الجديدة الحديثة خلال القرن الماضي (مثل برازيليا عاصمة البرازيل أو شانديغار في الهند) التي عجزت عن استيعاب النمو الحضري وعانت من الفصل الصارم بين الاستخدامات؛ على الرغم من أنها لا زالت مدنا عاملة في هذه الأيام. وبالنظر للاستثمار المركزي والالتزام الشخصي للرئيس ذاته؛ فإنه لن يكون من الحكمة شطب تجربة شيونغان؛ إذ إنها أحدث تجربة لتاريخ صيني طويل من استخدام مدن نموذجية من أجل إيصال قيم سياسية. واذا انطلقت المدينة فقد تنتقل إليها الشركات الخاصة لكي تستفيد مما قد يكون مجموعة من المواهب والموارد عالية التقنية. وحتى ذلك الحين سيبقى الدعم الحكومي هو المصدر الرئيسي للموارد ورأس المال، وستكون السنوات القليلة القادمة فترة حرجة للمدينة ولرؤية بينغ الأوسع للابتكار الذي تقوده دولة الحزب.


مجلة “فورين بولسي” الأميركية