النعام.. تجارة أغلى من الذهب

بانوراما 2023/03/20
...

 إيما برايس

 ترجمة: ليندا أدور

"ليس هناك ما هو أجمل من ذَكر طائر النعام يقف منتصبا، يفتح جناحيه، وريشها يتحرك بطريقة ولا أروع"، بهذه الكلمات يصف، لاوبشر كويتزي، مزارع النعام الجنوب إفريقي من الجيل الرابع ببلدة كارو شبه الجافة، بمنطقة أوتشورون بجنوب إفريقيا، المشهد المحبب لعينيه.  بدأ كويتزي (62 عاما)، منذ الطفولة بتربية طيور النعام وهي بعمر يوم واحد، بمزرعة جده الأكبر، لتصبح مذّاك، محور حياته وولعه، حيث يعمل المئات من المزارعين في منطقة الساحل الجنوبي الغربي بمقاطعة كيب الغربية، بتربية النعام، أكبر الطيور البرية، من أجل ريشها وجلودها ولحومها.


بارونات الريش

لقد سحر ريش النعام الكثيرين على امتداد قرون بعيدة. ففي الماضي، كان يتم اصطياد النعام بعموم أنحاء إفريقيا سيرا على الأقدام وعلى ظهور الخيل من أجل ريشه المترف ليزين رؤوس ملوك وأثرياء أوروبا. خلال القرن التاسع عشر، طور المزارعون هناك طريقة لتدجين طائر النعام ورعاية بيضه،  والتي لاقت دفعا من خلال وصول المهاجرين الليتوانيين الى أوتشورون، الذين أسهموا باتجاه ازدهار تجارة الريش. 

بحلول ثمانينيات القرن التاسع عشر، أصبح ريش النعام مطلوبا وبكثرة بمجال عالم الأزياء النسائية، لدرجة أنه في مرحلة ما، كان وزنه أغلى من الذهب، وقد اجتذبت أوتشورون العشرات من "بارونات الريش"، لكن، جاء العام 1914 ليلقي بظلاله على هذه الصناعة فقد تراجعت هذه الصناعة، حيث غيرت اقتصاديات الحرب أنماط الموضة، وباختراع السيارات لم يعد ارتداء الريش عمليا. 

مع ذلك، لم يفقد ريش النعام جاذبيته المترفة، اذ يتزايد الإقبال عليه من قبل عروض المسارح والمهرجانات والعلامات التجارية للخياطة الراقية في أوروبا، ويتجه معظم مستورديه الى جنوب افريقيا، التي توفر ما نسبته 75 بالمئة من منتجات النعام على مستوى العالم، غالبيتها من أوتشورون. 

يعرف النعام بأنه من الطيور التي لا تطير، أي أنه لا يحتاج الى ريش ناعم وصلب ليساعده في الطيران، بدلا من ذلك، يربي النعام ريش ناعم وزغبي يتودد به لأقرانه عند التزاوج، وله ساقان قويتان تمكنانه من الركض بسرعة 60 كيلومترا في الساعة وتوجيه ركلة بقوة تكفي لقتل شخص بالغ.


الجفاف والمناخ

على مساحة 820 هكتارا، يربي كويتزي، سنويا، ثمانية آلاف فرخ وطائر صغير ليبيعها بعد ذلك الى المزارع القريبة، مع الاحتفاظ بعدد ثابت يصل إلى 600 من الطيور المستولدة. يعتمد جمع الريش، من ذكور وإناث النعام، على دورات تساقطه الطبيعية كل ثمانية أشهر. يقول كويتزي بأنه يمكن التعرف على الريشة "الناضجة" عندما يقل عدد الأوعية الدموية والأعصاب في عروقها وتجف لتصبح "شفافة شبه زجاجية"، وهو الوقت المناسب لجمع الريش، حيث يتم توجيه النعام، كقطيع أغنام، الى داخل حظيرة مثلثة الشكل منخفضة لتجنب ركلاته القوية، وإبقائه معصوب العينين للحفاظ عليه هادئا، بينما يقف أربعة أشخاص على كل جانب، وفي غضون خمس دقائق فقط، يتم جمع الريش الناعم والرقيق يدويا، وتقليم الريش الأطول في الجناح.

يصل وزن الريش الذي تنتجه نعامة بالغة نحو كيلوغرام واحد في كل مرة يجمع فيها، ويتقاضى المزارعون أجورهم حسب الوزن. سرعان ما يعود الريش للنمو مرة أخرى، يؤكد كويتزي بأنه يحرص على عدم المبالغة في تشذيب طيوره بهدف حمايتها من تقلبات المناخ القاسية، اذ شهدت المنطقة، مؤخرا، موجات جفاف طويلة، فبالرغم من قدرة طائر النعام على التكيف مع أجواء الصحراء القاسية، إلا أن الجفاف المقترن بدرجات حرارة تزيد عن 40 درجة مئوية تسببت بهلاك العديد منها، وفقا لكويتزي، الذي يقلقه تهديد آخر، والمتمثل بما يعرف "عصابات الريش". ففي العام 2019، اقتحمت مجموعة من اللصوص حظيرة الطيور وقاموا بنتف ريش "غير ناضج" لنحو 25 طيرا من طيور النعام خاصته، مما تسبب بنفوق إحدى الأناث. 


جلودها هي الأغلى ثمنًا

في الوقت الذي يربي فيه كويتزي طيوره من أجل الريش، يعمد مزارعون آخرون الى تربيتها من أجل لحومها وجلودها، وهو المنتج الأغلى ثمنا والأعلى قيمة، اذ يعدُّ الريش منتجا ثانويا يطرح منه. البعض من الطيور هي مصدر للبيض كذلك، اذ يضع النعام نحو 60 بيضة سنويا، والبيض الذي لا يربى ليصل مرحلة التفقيس، يصار الى إفراغه وتصديره الى المانيا، بشكل خاص، لغرض استخدامه في زينة عيد الفصح. تذبح طيور النعام التي تربى من أجل جلودها بعمر تسعة أشهر، ويتم نزع ريشها، وتنقل الى القسم الخاص، مع الريش الذي يجمع من الطيور الحية، حيث يجري تعقيمه وتجفيفه وتصنيفه حسب نوعه وحجمه وجودته. من ريش جسم الطائر، تصنع منفضة الريش بطول (متر ونصف المتر)، أو يتم قصه وصبغه لتصنع منه الآلاف من الأصلات (زينة ريشية ملحقة بالأزياء، كالأفعى تلبس عادة ملفوفة حول الرقبة) لغرض التصدير، أما ريش الجناح وهو الأغلى ثمنا فيباع ليدخل في صنع ملابس المهرجانات والمسرحيات والأزياء. يقول لورين إيستكورت، صانع أصلات ريشية وهو واحد من 20 ألف شخص يعملون بصناعة النعام بجنوب إفريقيا، اذ توفر فرص عمل لسكان المناطق الريفية الأكثر حرمانا في البلاد: "نشعر بالفخر عندما نشاهد الناس ترتدي منتجنا". في أوتشورون، يقف كويتزي متأملا وجهة ريشه قائلا: "أحيانا، عندما نرى سيدة ترتدي ثوبا فاخرا وعليه ريش نعام، نتساءل كم واحدة منها كان مصدرها مزرعتنا!".


*صحيفة الغارديان البريطانية