طعام علماء القارة القطبيَّة المتجمدة.. ضرورةٌ لحياة عمليَّة

بانوراما 2023/03/20
...

  سيرينا كودي

 ترجمة: بهاء سلمان

لا يوجد مكان على كوكب الأرض أبرد من شرق القارة القطبية الجنوبية، وبسبب تضاريسها الأعلى ارتفاعا، لا يمكن حتى لغرب القارة نفسها الوصول إلى درجات حرارتها العدائية. وتواجه محطة "برنسيس اليزابيث" للأبحاث القطبية ضمن منطقة أرض الملكة مود سرعات رياح تصل إلى 249 كيلومترا بالساعة، ودرجات حرارة تنخفض إلى نحو خمسين درجة دون الصفر، ليمثّل اسلوب إعداد طعام مناسب مهارة ضرورية بشكل مفهوم لأي طاهٍ يعمل وسط هذه البيئة.


يقول الطاهي "توماس دوكونسيل: "مع وجود أفراد المحطة خارجا وسط درجات حرارة بالغة البرودة وظروف قاسية، أرغب بإعداد شيء ما لطيف وكثيف بالنسبة للجسم، مثل مخفوق الجبن وجبنة الراكليت، الكثير منها." ويدير دوكونسيل هذا الموقع النائي لعدة أشهر كل سنة.


طبيعة قاسية

وعندما توجد مجموعة علماء على بعد نحو 3100 ميل من أقرب مدينة، ومسافة 9900 ميل عن الوطن، فمن المنطقي أن الأمر يستحق كل هذه المسافة. 

لكن طهو الطعام في هذه الظروف يحمل معه تحديات فريدة من نوعها، ولا يكون أمرا معتادا. تجلس محطة برنسيس اليزابيث على قمة جبل ضمن سلسلة جبلية، وتقع خارج نافذة مكتب دوكونسيل جبال صوان ثلجية وأراضٍ منخفضة ساطعة البياض، تتناثر عليها وحدات الإقامة وحاويات مختبرية وتوربينات الرياح المنبثقة من 

الثلوج.

أثناء شهور الصيف، من تشرين الثاني لغاية شباط، يغمر منظر الجبال الجليدية بضياء مستمر، فالشمس تنزلق خلف القمة لثلاث ساعات فقط يوميا. في هذا الوقت، يتجوّل علماء من بلجيكا وفرنسا وألمانيا وتركيا والهند والولايات المتحدة عبر 124 ميل عبر الجبال والساحل والأنهار الجليدية والصفيحة القطبية لتنفيذ أبحاث علمية ولتطوير ستراتيجيات تتعامل مع تغيّر المناخ. يبقى البعض لعدة أسابيع، وربما يبقى آخرون للموسم كله. 

أما دوكونسيل، الطاهي المقيم في المحطة، فهو هناك للشهور الأربعة بالكامل، وهذه هي السنة السابعة له في القارة القطبية الجنوبية.

بدأت محطة برنسيس اليزابيث العمل سنة 2009، تشغلها مؤسسة القطب الدولية المتّخذة من بروكسل مقرا لها، لتكون من أحدث محطات أبحاث القطب الجنوبي. ورغم كونها الأصغر عمرا، فهي أول محطة أبحاث قطبية بلا انبعاثات حرارية، معتمدة كليا على الطاقة المتجددة داخل أحد أكثر بيئات العالم قسوة. منظر المحطة له خصوصية أيضا، فمع جلوسها على قمة جبل، فهي تشبه مركبة فضاء سداسية الأضلاع هبطت لتوّها، وتعكس ألواحها الفضية الأنيقة البياض الناصع للمنظر القطبي الطبيعي.


خدمة رائعة

من الصعب تصديق وجود إعداد للخبز في داخل المحطة. يقول دوكونسيل: "نحضّر خبزنا ونطبخه هنا، فالخبز الطازج أمر مهم، وأحب صنع خبز البريوش لوجبة الفطور، مع الشوكولا داخله." 

ولكونه فرنسيا، يعتبر الخبز الجيّد منهاج حياة في مكان تواجده بالقارة القطبية بنفس قدر حضوره في موطنه بمنطقة النورماندي، أو في جبال الألب، حيث يقضي الجزء الأفضل من السنة يقدّم الطعام لصنف آخر من المستكشفين على جبل بلانك.

ولأنّ المحطة تبعد ست ساعات طيران عن أقرب مدينة، وهي كيبتاون في جنوب أفريقيا، يتأكد دوكونسيل من كون اللحوم والأسماك والخضراوات بحالة تجميد يمكنها البقاء سليمة حتى نهاية الموسم، وإن البيض مخزّن في صناديق خاصة، مع فصل البياض عن الصفار. ولأجل الحصول على مكوّنات طازجة، تطير حزمة من هذه المواد الثمينة شهريا من كيبتاون، إذا كان الجو مناسبا لذلك. وبرغم ارتفاعها عن مستوى سطح البحر بنحو 4500 قدم، تبقى المحطة دافئة ومحمية من عوامل الجو، بفضل تركيبة قوية من مواد الصوف والألمنيوم والخشب والحديد.

وبواسطة نظام مختلط متألّف من تسعة توربينات رياح و408 ألواح شمسية، تبقى الكهرباء مستمرة طوال مئة يوم في المحطة، مع درجات حرارة داخلية لا تقل عن عشرين مئوية بدون الحاجة لاستخدام التدفئة. ولأجل الوصول إلى المحطة، يستقلّ الطاقم طائرة من نوع (دي سي 3)، وهي ملائمة تماما لنقل البضائع والمناورة في المدارج الثلجية. وتستغرق الرحلة ست ساعات، ومن ثم رحلة لتسعين دقيقة من المطار إلى المحطة؛ كما يتم نقل المواد الغذائية بالطائرة نفسها، وتكون هذه الرحلة كل شهر مرة، بحسب وضع الطقس.


خبرة ضروريَّة

بمرور السنين، اكتسب دوكونسيل خبرة كافية للإبقاء على طزوجة المواد الغذائية، مع معرفته للمادة الممكن أن تذبل أسرع من غيرها، بالتالي سيتمكّن من تقديم وجبات طازجة طوال الوقت لطاقم المحطة. وتتنوّع الأطباق التي يعدها الطباخ الماهر، من الحساء واللحوم والبيتزا والسلطات والفطائر والحلويات؛ كما يحاول تقديم وجبات مميّزة خلال المناسبات الخاصة، مثل أعياد الميلاد ورأس السنة، ليتحوّل طعامه إلى مطعم حقيقي.

ومع انعزال المحطة وتذبذب وجود أفراد الطاقم، من المهم بمكان إدامة تخزين المواد الغذائية الاساسية من موسم إلى آخر. ويعد نقل مواد طويلة الأمد ولا تذبل بسرعة، مثل الحبوب والبقوليات والطماطم المعلّبة، بمثابة تحد كبير يختلف عن نقلات الطعام الطازج. يقول دوكونسيل: "من بلجيكا، نملأ حاويات الشحن بكميات كبيرة من الطعام الجاف والمجمّد، وفي كل سنة، تأتي سفينة محملة بهذه المواد لصالحنا".

يتم تخزين الطعام في الطابق السفلي للمحطة، حيث توجد غرفة كبيرة برفوف للأغذية الجافة، ومجمّدة بحجم حاوية شحن، مع ثلاجة أصغر حجما، وهي ضرورية لإبقاء بعض المواد، مثل الفواكه، صالحة لاستهلاك البشري. ولا يخطط دوكونسيل الوجبات مقدما، لكنه يحتفظ بجرد محكم للطعام، ليتسنى له معرفة خزينه بشكل دقيق. وتستلزم الطبيعة الثمينة للطعام الطازج من الطاهي أن تكون لديه ميزة قدرة التكيّف والإبداع. "أنا أطهو وفقا لما أشعر به، اعتمادا على عدد الموجودين، أو ماهية الطعام الذي سيفسد قريبا. الأمر كله متوقف على ما متوفر لدينا."

وبسبب المدى الكبير للدراسات في شرق القارة، ينطلق الباحثون بجولات ميدانية منتظمة، ليلعب الطاهي دورا حيويا بنجاح هذه الرحلات الاستكشافية. "ربما تستغرق هذه الجولات الميدانية إسبوعين إلى ثلاثة أسابيع، ويساهم فيها أربعة علماء. ولأجل هذا، يتوجّب عليّ تقدير الوجبات التي سيحتاجونها بعيدا عن المحطة. في كل مرة، أطهو وجبات كبيرة، وأجمّدها على شكل قطع ليتمكن الباحثون من أخذها معهم، يذوبونها ويأكلونها، كي لا يضيعوا وقتا ثمينا في الميدان".


وكالة سي أن أن الأخبارية الأميركية