بين د. مصطفى جواد وحميد المطبعي

الصفحة الاخيرة 2023/03/22
...

زيد الحلي 

يطل علينا الشهر الفضيل بعد ساعات قليلة مبتسماً، داعياً الجميع إلى تصافح القلوب، وفتحها أمام هواء التفاؤل، والابتسام مع شروق الشمس، والابتعاد عن الأحزان والهموم، فهو شهر الخير والتسامح..

وقد تذكرتُ وأنا أكتب عن شهر رمضان، عالم اللغة والمنطق د. مصطفى جواد، ففي اليوم الثاني من شهر رمضان سنة 1968، كنتُ ضيفه مع صديقي الموسوعي حميد المطبعي الذي حمل معه نسخة من مجلته (الكلمة) طامحاً بأن يكون د. مصطفى جواد أحد كتابها..

كان الوقت يميل إلى الليل، وأتذكر أن بيته يقع في إحدى ضواحي منطقة المنصور بكرخ بغداد، استقبلنا الرجل بدشداشة كحلية اللون، وقدم لنا ابنه "غاب اسمه عني الآن" وهو يعمل في الإذاعة والتلفزيون، متطلبات الضيافة من شاي وبعض المعجنات، وبدأ المطبعي الحديث عن مجلته، وانتشارها في الأوساط الثقافية، ثم قدم له نسخة منها، فبدأ د. جواد بتصفحها، بعد أن وضع على عينيه نظارته الطبية، وفجأة علا صوته بعد أن قرأ موضوعاً في المجلة، فوجه كلاماً إلى المطبعي: كيف تنشر في مجلتك، حواراً مع شاعر تقول فيه إن حديثه "شيق".. إن هذا التعبير خاطئ، والصواب أن تقول: "هذا حديث شائق" فكلمة "شيِّق" تعني: مشتاق، فهل يجوز أن تقول هذا حديث مشتاق!. 

ضحكنا، ثم بان الخجل على محيا المطبعي، الذي أحال الخطأ على مصحح المجلة، مع معرفتي أن المجلة كانت تنضد وتصحح وتجمع وتوزع على يد المطبعي وحده.

كانت ملامح الهزال بادية، على د. مصطفى جواد، فقد كان يعاني من مرض لم يشأ أن يحدثنا عنه، وبالرغم من اصفرار وجهه، لكن حديثه كان من أشهى وأغنى وأحلى الأحاديث، لأن من طبعه مزج المعلومة بالطرفة، ويحاكي الحاضر بلغة التراث.

كان رحمه الله حلو المعشر، رخيم الإلقاء، وأجمل ما فيه حبه لبغداد، فهو يعرف كل ما يخصها، مناطقها وشوارعها، وأشهر الأسر، وعلى كثرة "إلحاح" الصديق المطبعي في أسئلته، كان يجيبه بشيء من التفصيل الوافي، وقد لاحظت أن عالم اللغة لم يعترف بالزمن، ويعتبره حالة من واقع الحال ولا ينبغي التعامل معه بالخوف منه، وكثيراً ما كان يردد أمامنا بصوته المعروف اتركوا (الزمن) خلفكم وإذا لم تفعلوا ذلك فسيسبقكم ويلف حباله حول رقابكم.!

لهما الرحمة.