تبادل الرجال والنساء الخداع.. والعميل المزدوج

بانوراما 2023/03/22
...

 فيليب نايتلي 

 ترجمة: أنيس الصفار                

يشعر جهاز الأمن الداخلي في بريطانيا (أم آي فايف- MI5) بالقلق أزاء موضوع الجنس. فمن خلال وثيقة مؤلفة من 14 صفحة كانت قد وزعت سنة 2009 على مئات المصارف والشركات والمؤسسات المالية البريطانية، بعنوان: "خطر التجسس الصيني"، قدم جهاز الأمن البريطاني الشهير هذا وصفاً لمساعٍ صينية واسعة النطاق لابتزاز رجال أعمال غربيين باستغلال علاقاتهم الجنسية. حذرت تلك الوثيقة بشكل صريح من أن أجهزة المخابرات الصينية تحاول غرس ما وصفته صحيفة التايمز اللندنية بأنه "علاقات جنسية طويلة الامد ثم استغلال جوانب الضعف المتولدة عن تلك العلاقات للضغط على أشخاص معينين وجعلهم يتعاونون معها"، على حد قول الصحيفة.

                            

هذا التقرير، الذي تناول تكتيكات التجسس الصيني على الشركات الكبرى، ليس سوى الحلقة الأحدث في تاريخ طويل وقذر لارتباط التجسس بالجنس.

فعلى مدى القرون كان اساتذة التجسس من كل صنف ونوع يدربون جواسيسهم على استغلال فنون الغرام للحصول على معلومات سرية.

الاسم المتعارف عليه لهذا النوع من التجسس هو "مصيدة العسل"، وقد تكشف على مر الزمن أن الرجال والنساء معاً يمتلكون المهارة والخبرة لنصب هذه المصائد، كما إنهما معاً معرضان بنفس الدرجة للوقوع في حبائلها. 

يستخدم الجواسيس عنصري الجنس والدهاء وما في الحياة السرية من إثارة كطعم في مصيدتهم. 

في أحيان كثيرة يخفق حتى الذكاء وحسن التدريب وقوة الشخصية والحسّ الوطني في وقاية المرء من الوقوع في مصيدة عسل أحسن إعدادُها.

وكما هو الحال في الحياة العادية، لا يمكن لأية درجة من التخطيط أن تتحسب من إمكانية انقلاب علاقة رومانسية اِبتدأت بالخداع الى علاقة عاطفية حقيقية متأججة.

بل إن إحدى النساء المتورطات في إحدى هذه العلاقات بقيت ترفض تصديق انها قد تم خداعها حينما كشف النقاب عن مصيدة عسل من هذا النوع في ألمانيا الشرقية سنة 1997. 

وحتى عندما واجهت الدليل ظلّت تردد بإصرار: "كلا.. هذا لا يمكن أن يكون حقيقة.. لقد كان صادقاً في حبه لي."

والواقع أن أولئك الذين يهدفون الى الارتقاء بفن مصيدة العسل الى حد الكمال، وكذلك من ينشدون تحصين أنفسهم منها، سوف يحسنون صنعاً إن هم أخذوا الدروس والعبر من تاريخ مصيدة العسل. 

هناك بطبيعة الحال من القصص والدراما والاحداث المشينة والزوجات والازواج الذين تزلزلت حياتهم، ومن الرسائل المختلسة والحياة المدمّرة أكثر بكثير مما يتطلبه الأمر للشهادة على صدق ذلك التاريخ.

رغم هذا يمكن للمرء أن يبتدئ بخمس قصص مشهورة وعن الدروس التي يمكن أن تقدمها لصيادي العسل وللضحايا الذين يحتمل أن يقعوا في حبائل هذه المصيدة في كل مكان وزمان.


لا تتبع  المرأة

في العام 1986 قصد "مردخاي فعنونو"، وهو فني اسرائيلي كان يعمل في منشأة ديمونة النووية الاسرائيلية، الصحف البريطانية بزعم مفاده أن اسرائيل قد طورت قنابل ذرية.

كان تصريحه ذاك يتناقض تناقضاً مباشراً مع سياسة اسرائيل الرسمية في اعتماد مبدأ الغموض النووي، ولكنه كان يحمل معه صوراً تثبت ما يقول.

كانت فترة المفاوضات بين الصحف مشحونة بالتوتر، وفي لحظة من اللحظات حرصت صحيفة "صنداي تايمز" اللندنية على اخفاء فعنونو في مكان سري في احدى ضواحي لندن لحين التحقق من صدق قصته.

لكن فعنونو ضاق صدره ونفد صبره ولم يلبث أن أعلن للمعنيين في الصحيفة أنه قد إلتقى بامرأة شابة اثناء زيارة لأحد المنتجعات السياحية في لندن وانهما يخططان للقيام برحلة رومانسية الى روما في عطلة نهاية الاسبوع.

شعرت الصحيفة أنها لا تملك حق منع فعنونو من السفر، وكانت تلك غلطة فادحة. 

فبمجرد وصوله الى روما مع صديقته ألقى ضباط الموساد القبض عليه واقتادوه رغماً عنه تحت التخدير ثم هربوه في سفينة من إيطاليا الى اسرائيل حيث حوكم بتهمة الخيانة.

قضى فعنونو 18 عاماً في السجن، منها 11 عاماً في الحجز الانفرادي.

بعد ذلك أطلق سراحه في العام 2004 ولكنه لا يزال محتجزاً في اسرائيل تحت قيود صارمة تشمل عدم السماح له بالالتقاء بالاجانب أو التحدث عن تجربته. أما بريطانيا فلم تفتح تحقيقاً بهذا الشأن على الاطلاق.

كانت المرأة التي نصبت مصيدة العسل لمردخاي فعنونو ضابطة في الموساد اسمها "شيريل بنتوف" واسمها السري "سندي"، وهي من مواليد أورلاندو في ولاية فلوريدا الأميركية، وكانت متزوجة من ضابط في جهاز الأمن الاسرائيلي. من بعد تلك العملية منحت هوية جديدة لمنع تعرضها لأعمال انتقامية، وفي نهاية الأمر غادرت اسرائيل عائدة الى الولايات المتحدة، بيد أن دورها في قضية فعنونو كان حاسماً لأن الموساد لم يكن يستطيع المجازفة بوقوع أزمة دبلوماسية إذا ما أقدم على اختطاف فعنونو من داخل الاراضي البريطانية مباشرة، لذا اقتضى استدراجه للخروج من هناك اولاً، وهي مهمة انطوت على الجرأة ولكنها كانت ناجحة في هذه 

الحالة. 


لا تقبل معروفاً من احد

إحدى أشهر مصائد العسل في تاريخ الجاسوسية هي تلك المتعلقة بشخصية "ماتا هاري"، وهي إمرأة هولندية قضت سنوات من حياتها في العمل راقصة إغراء في جاوا. وخلال الحرب العالمية الأولى اعتقلها الفرنسيون بتهمة التجسس لصالح الألمان وأقاموا اتهامهم على أساس اكتشافهم من خلال برقيات اعترضوها أن الملحق العسكري الألماني في إسبانيا كان يرسل المال اليها. زعم الفرنسيون أن الألماني كان يعمل بصفة ضابط سيطرة لها، وأنها كانت تنقل اليه أسرار الفرنسيين، وهي أسرار كانت تحصل عليها من خلال إغوائها لسياسيين وضباط فرنسيين كبار.

خلال المحاكمة دافعت "ماتا هاري" عن نفسها بقوة مدعية أنها كانت مجرد عشيقة للملحق؛ لا أكثر، وأنه كان يرسل إليها الهدايا. بيد أن حججها لم تقنع القضاة فلقيت حتفها رمياً بالرصاص في 15 تشرين الأول 1917، رافضة عصب عينيها قبل الإعدام.

بعد انتهاء الحرب اعترف الفرنسيون بأنهم لم يكونوا يملكون أدلة دامغة ضدها، وكان الاستنتاج الذي خلص اليه معظم المؤرخين المعاصرين هو أنها لم تعدم بسبب نصبها "مصيدة عسل"، وإنما من أجل ارسال رسالة صارمة الى أية امرأة قد تفكر بأن تحذو حذوها. لعل الدرس المستقى هنا هو ان اصطناع شيء شبيه بمصيدة العسل قد لا يقل خطورة عن المصيدة الحقيقية نفسها.


أحذر الإعلام

في بعض الاحيان يمكن أن يقع مجتمع الصحافة والاعلام بأكمله في مصيدة عسل ظاهرية لا يقوم عليها دليل. 

فبحلول مطلع اعوام الستينيات من القرن الماضي كان "ييفغيني إيفانوف" يشغل منصب الملحق السوفييتي في لندن، وكان رجلاً وسيماً وضابطاً أنيقاً جذاباً وشخصية لها شعبيتها في المشهد الدبلوماسي والاجتماعي البريطاني، كما كان ضيفاً دائم التردد على الحفلات التي يقيمها طبيب تقويم العظام المشهور ونجم المجتمع "ستيفن وارد". 

اشتهر وارد بأنه كان يدعو الى حفلاته نخبة منتقاة من أجمل حسان لندن، وكانت إحدى تلكم النساء "كريستين كيلر". وهي فتاة لعوب قيل إنها اصبحت فيما بعد خليلة لإيفانوف. 

شاء سوء حظ جميع المعنيين الذين امتدت إليهم خيوط القضية أن تكون كيلر هذه في الوقت ذاته عشيقة لرجل متزوج هو النائب في البرلمان البريطاني ووزير الدولة لشؤون الحرب "جون بروفيومو" الذي كان عاكفاً آنذاك على وضع خطط مع الولايات المتحدة لنصب صورايخ كروز في ألمانيا. 

في العام 1963 فضحت الصحافة العلاقة بين بروفيومو وكيلر، كما ضخمت صحف الفضائح البريطانية المشهورة دور مصيدة العسل السوفييتية المزعومة. 

إثر ذلك أرغم بروفيومو على الاستقالة لكذبه على مجلس العموم بشأن علاقته الغرامية. ورغم صفح زوجته عنه فيما حدث، انتهت وظيفته الى الخراب.

أما ايفانوف فقد استدعي الى موسكو حيث قضى ما تبقى من أيامه وهو يتندر ويسخر من الحكاية كلها من أولها الى آخرها، ولعله كان على حق.. إذ ما أسهل أن تضيع الحقيقة حين تضع الصحافة يدها على 

ما يشتبه به أن يكون مصيدة عسل.


مصيدة العسل الأقسى

لم تكن كل مصائد العسل قائمة على علاقة بين رجل وامرأة، بل إن مصيدة عسل في زمن أقل تحرراً  تستغل فيها العلاقة المِثلية بهدف الابتزاز لم تكن لتقل خطراً عن استخدام المرأة كطعم.

المثال على ذلك حكاية "جيريمي وولفندن" مراسل صحيفة "ديلي تلغراف" اللندنية في موسكو عند مطلع الستينيات من القرن الماضي. كانت لدى وولفندن هذا نقطة ضعف مزدوجة أتاحت لجهاز المخابرات السوفييتي "كي جي بي" أن يتسلل إليه، فهو يتحدث اللغة الروسية كما إنه كان ذا ميول مِثلية. اغتنم جهاز "كي جي بي" هذا الضعف، فأمر حلاق وزارة التجارة الخارجية باستدراجه بعد وضع رجلٍ يحمل آلة تصوير داخل خزانة ملابس وولفندن لالتقاط صور يساومونه عليها. بعد ذلك ابتز جهاز "كي جي بي" وولفندن من خلال تهديده بإرسال تلك الصور الى الجهة التي يعمل لديها، ما لم يوافق على التجسس على الجالية الغربية في موسكو.

أبلغ وولفندن سفارته بالواقعة، ولكن رد فعل المسؤول البريطاني لم يأت كما كان يتوقع. ففي زيارته التالية إلى لندن استدعي لمقابلة ضابط من جهاز المخابرات السرية "أس آي أس" وطلب منه أن يستمر في العمل كعميل مزدوج بالتواصل مع "كي جي بي" ومواصلة رفع التقارير إلى "أس آي أس" في الوقت نفسه.

إشتد الضغط على وولفندن الى أن أوقعه في الإدمان على الكحول. 

حاول أن ينهي عمله في التجسس وتزوج من إمرأة بريطانية كان قد إلتقى بها في موسكو، وتدبر أمر نقله من موسكو الى مكتب صحيفة "ديلي تلغراف" في واشنطن وأخبر أصدقاءه أنه قد ترك أيام التجسس وراء ظهره. لكن حياة الجاسوسية لم يكن من السهل تركها وراءه. فعندما اىلتقى بضابط المخابرات السرية الذي كان يوجهه خلال حفل اقامته السفارة البريطانية بواشنطن سنة 1965 وجد وولفندن نفسه مشدودا مرة أخرى الى ذلك المحيط. 

غرقت حياته وسط غمامة من السكر. وفي 28 كانون الأول 1965، عندما كان بسن 31 عاماً، توفي جراء نزيف في الدماغ، حسب الظاهر، بسبب سقوطه داخل غرفة الحمام. وأياً يكن السبب الفعلي المباشر لوفاته فقد كان اصدقاؤه على يقين من أن جهازي "كي جي بي" و"أس آي أس" معاً قد استنزفا كل ما لديه من رغبة في الحياة.

من السخرية أن فترة عمله كجاسوس لم تنتج على الارجح منفعة ذات بال لأي من الجانبين. فزملاؤه لم يكونوا يمدونه بالمعلومات بعد أن تلقوا تحذيرات مفادها أنه يتصل بالمخابرات السوفييتية، كما لم يكن السوفييت يعطونه شيئاً من جانبهم. أثبت العسل في هذه الحالة أنه من الممكن أن يقتل من دون تحقيق غاية لأحد.


نساء كثيرات بلا أزواج

لعل اكبر مصيدة عسل في تاريخ الجاسوسية هي تلك التي ابتدعها استاذ الجاسوسية الألماني الشرقي سيء الصيت "ماركوس وولف". ففي اوائل الخمسينات شخص وولف أن الأعداد الكبيرة من الشبان الألمان في سن الزواج الذين فقدوا حياتهم خلال الحرب العالمية الثانية وما نجم عن ذلك من تحول المزيد والمزيد من النساء الألمانيات الى تولي الاعمال والمهن المختلفة سيكون معناه أن تغص المناصب العليا في الحكومة الألمانية وفي ميادين الاقتصاد والصناعة وسائر التخصصات الاخرى، بنساء عازبات يعانين الوحدة، وأنه يمكن وصفهن – من وجهة نظره– بأنهن ضعيفات ومؤهلات للسقوط في شراك العسل بسهولة.

أسس وولف قسماً خاصاً في جهاز الستازي (وهو جهاز الأمن في ألمانيا الشرقية) جعل جميع كوادره من أشد ضباطه وسامة وذكاء. اطلقت على هؤلاء تسمية "جواسيس روميو" وكانت مهمتهم هي التغلغل داخل ألمانيا الغربية والبحث عن نساء غير متزوجات من ذوات النفوذ والسلطة ثم التلاعب بعواطفهن واستخلاص جميع ما لديهن من اسرار. بفضل "جواسيس روميو" ومصائد عسلهم تمكن الستازي من اختراق معظم المستويات في حكومة ألمانيا الغربية وصناعاتها. بل إن الألمان الشرقيين كانت لديهم في مرحلة من المراحل جاسوسة من داخل حلف الناتو، وقد نجحت هذه الجاسوسة في الحصول على معلومات تتعلق بالاسلحة النووية التي ينشرها الغرب. كذلك تمكنت جاسوسة أخرى من استغلال صلاتها وعلاقاتها لتصبح سكرتيرة في مكتب مستشار ألمانيا الغربية "هلموت شميدت".

فقد المخطط جدواه عندما توصلت سلطات مكافحة التجسس في المانيا الغربية الى طريقة بسيطة للتعرف على ضباط الستازي حال وصولهم الى المانيا الغربية، ذلك أنهم كانوا يتخذون قصات شعر مختلفة يمكن تمييزها بكل وضوح، وهي القصة العملية المتسمة بشعر قصير من الخلف والجوانب بدلاً من الموضة التي كانت شائعة في المانيا الغربية. كان ضباط مكافحة التجسس يبدأون بتتبع جواسيس روميو فور تلقيهم تحذيراً من حرس القطارات ثم يلقون القبض عليهم لدى ارتكابهم اول تحرك خاطئ.

ثلاثة من النسوة ألقي القبض عليهن، ومثلن أمام المحكمة، ولكن العقوبات بوجه عام كانت متسمة باللين. 

إحدى النساء اللائي تمكنّ من التسلل الى جهاز المخابرات الألماني الغربي تلقت حكماً بالسجن لمدة ست سنوات ونصف فقط، ربما بسبب تعاطف المواطنين العاديين في ألمانيا الغربية مع النساء. وولف نفسه مثل للمحاكمة مرتين بعد انهيار الشيوعية، لكنه لم يتلق سوى حكم بالسجن لمدة سنتين مع وقف التنفيذ نظراً للتشوش حول مسألة ما إذا كان بالامكان إدانة مواطني ألمانيا الشرقية بتهمة خيانة ألمانيا الغربية. على العكس من معظم اساتذة التجسس، احتفظ وولف بأفكاره حول تجربته كي تطلع عليها الاجيال اللاحقة مدونة في كتاب يتضمن سيرته الذاتية عنوانه: "رجل بلا وجه". 

انكر وولف انه كان يضغط على ضباطه كي يستخدموا الحب للقيام بعملهم وان الامر كان متروكاً للضباط انفسهم، كتب يقول: "لقد كانوا عاملين اذكياء ادركوا من تلقاء انفسهم ان الكثير يمكن تحقيقه عن طريق الجنس. وهذا يصدق في مجال الاعمال والتجسس لأنه يفتح قنوات الاتصال اسرع من بقية الاساليب."لكن ماذا عن اخلاقية الأمر برمته؟ يرد وولف بالنيابة عن جميع اساتذة التجسس في كتابه فيقول: "طالما بقي هناك تجسس سيبقى روميو موجوداً يغري الغافلات اللائي يمتلكن اسراراً."  لكنه يعود ليؤكد قائلاً: "لقد كنت ادير جهازاً للمخابرات لا نادياً للقلوب الوحيدة."


عن مجلة فورن بولسي الأميركية